المشاركات الشائعة

الأربعاء، 8 يناير 2014

قصة قصيرة ___ مدافن العوز .. / سعدي عباس العبد ... العراق ......................





قصة قصيرة ___ مدافن العوز ..

سعدي عباس العبد ... العراق

--* امّي تصرخ منذ اوّل الصباح .. تجري في الباحة وتطلق الشتائم عند اوّل الصباح ..تركض في دوران منهك وراء الخبز .. الخبز المر , المعجون بنشارة الخشب ونوى التمر المطحون ..وانا انبح مثل جرو ضال ..واخوتي . جراء صغيرة تطلق هريرا فاترا , هرير ما زال ينمو في رحم المجاعة ..واختي العرجاء , المنغولية الملامح ,مشغولة .. مشغولة باستمرار في إدامة البكاء والشجار والبحث في القمامة عن ما يقيم اودها .. عما يسد رمقها .. المح امّي تجري مضطربة في الباحة . تبحث عن رغيف مر ..! تبحث وهي تتعثر بدموعها وهي ترتطم بيأسها النامي على الدوام .. فألقي على خطواتها وهي ترفل بوشاحها الاسود الرث , نظرة اخيرة مرتبكة , قبل انّ اخرج إلى الشارع , اسمعها تهتف في اثري عبر المسافة المتصلة بالباب المفتوح , تطلب اليَّ انّ لا اعود خالي الوفاض...
تقودني الارصفة بقدمين حافيتين , ناحية ساحة الكراج , المزدحم بالسيارات الفارهة والبشر ..فاشرع بالهتاف . هتاف خامل بنبرة خاوية , نبرة متخمة بالجوع والنعاس , اروّج لبضاعتي من المناديل ..كنت وانا اطلق نداءاتي الفاترة , ابحلق في الخليقة بعيون مغلقة , ليست مغلقة تماما ..كنت ما ازال اتملى النظر جائعا خاويا . لما اومأت ليّ سيدة , يسيل الجمال من بشرتها وشعرها الفاحم الطويل المتوج في نور النهار ..اشارت ليّ عبر ذراعها البيضاء العارية الملوّحة من خلال نافذة السيارة . المفتوحة . فجريت مسرعا بعلب المناديل المفروشة على ذراعي اليمين , .. كانت تبحث عن النقود لما لمحت تنورتها القصيرة تنحسر عن ساقين تشعّان بياضا طريّا ناعما , فهجست قلبي يخفق بشدة , فتذكّرت امّي , فارتعشت يدي . وارتج داخلي ... داخلي او روحي المراهقة ..تلك الروح الرثة التي بينها وبين الثراء والنساء جدار طويل من الفاقه والحرمان عصيّ على التسلق ..فامكث انازع عبر ذاكرتي وروحي اطياف عارية في مخيّلتي . وعندما يهدني النزاع , اجدني اهتف في الزحام كأي شقي لوث سحنته العوز بالاصفرار والانيميا .. انصت الى اللغط المتصاعد من فضاءات المطاعم , اللغط المكتظ بالتخمة وراحة البال ..انصت وانا ارى الى ناحية الكروش المقوّسة المحدودبة في انسيابية رخية مترهلة , ارى وانا مغمّض القلب والحسرة والندم !! ارى وانا مكبّل من احشائي بحبال من الخواء والانهاك ومشدود إلى هاوية مريعة من الحرمان .. ارى إلى احدهم يتجشأ وهو يمسح على كرشه باصابع ثخينة تبرز من يد طويل ممتلئة .. فاشعر إني لم اكن سوى كلب جائع يبسط قائمتيه بالمناديل ..المناديل التي من كثرت ما روجت لها في المديح تحوّلت إلى غبار يخضّب الوجوه اللامعة بالدموع والزفير !!! .. كم حذرتني امّي من الترويج او البيع في الامكنة المكتظة بالزحام .. زحام الاثرياء .. ولكن الاخطاء كانت تجري مجرى الدم في بدني .. تلتف على قلبي بحبال من الغواية والاحلام الميتة التي واراها الفقر وهي لما تزل في المهد تنمو...واراها في مدافن العوز.. العوز الذي ظل يحفر في بدني بلا هوادة , حتى قبل اغتيال ابي بطريق الخطأ في ساحة لتجمع العمال .. لم يكن ابي سياسيا ولا مرافقا لاحد ولم ينتمِ لحزب ما .. كان امّيا جائعا , يتمدّد عند كلّ مساء على بساط من الألم . . ورغم انياب الفقر المغروزة في لحمه الضامر كان ينهض مبكّرا من جوعة مجبولا على المحبة والكرم , يطبع على خدودنا الصفر من الهزال والجوع .. خدودنا المجفّفة التي نشفتها رياح العوز . قبلّات حارة مفعمة برائحة الخوف من الغد ..يقبّلنا وهو يلف ذراعه المتيبّسة على رؤوسنا التي دوّختها الوعود المؤجلة على الدوام ! والانتظارات المتعاقبة التي لم نحصد منها غير وجع الرأس فلا ثياب جديدة ولا شيء يسر القلب وعندما نطلب اليه بالّحاح , يسرف في البكاء وتظل يده الحانية تطبق على اناملنا الغضة برفق ولوعة ..ويقول : ساشتري كلّ ما تريدون حينما اعود في المساء . فتنتفخ افواهنا من الضحك المكتوم ونحن نردّد ما قال , فيضحك ملء فمه رغم البكاء المضمر . كنا نعلم انه لن يفي بوعده , فهو لا يملك ثمن الخبز .. فمن اين يأتي لنا بالثياب الجديدة ..ولكنه كان يعدّنا بتنفيذ ذلك , ولم ينفذ . ومات وهو لم يفِ بوعوده الغزيرة ...شبع موتا وبات غبارا مسدولا على عينيّ.. غبارا يسد عليَّ المنافذ المفضية إلى باب البهجة . الباب الذي اغلق في وجهي بقوّة . فارتجت الحياة الصغيرة في داخلي فانكسر شيء ما , في داخلي ... فارتدّت خطواتي مرتطمة بجدار مهول من الفاقه , ارتطمت في وقت مبكّر جدا ! . ارتطمت قبل الآوان ..فاشاحت عني الدنيا بوجهها . فوجدتني كأي جرو مكبّل بالهرير والنباح والجوع والخوف .. تقودني الشوارع من رصيف إلى رصيف .. اتخبّط كأعمى مشدود للظلام ..انؤ باثقال بقاياي ... لو لم يمت ابي لكنت شيئا آخر بالتأكيد ..صرخت بوجه احدهم وانا الوّح بالمناديل قبّالة عينيه , امرّرها على مقربة من عيونه وانا استعيد ذكرى ابي واسمعني اردّد بنبرة خفيضة باكية : .. ولكن لماذا مات ..فسمعت صوتا يلاحقني من الخلف : بكم تبيع ... لم اجبه في بادىء الامر , ولكن لما جعل يلح ..بكيت وانا اردد رقما غير معقول . فعلم الرجل اني في ضائقة ولم ابع من بضاعتي واني اقرب ما اكون الى شحاذ منه الى بائع جوال ...لمحته يرمقني بطرف عينه الذكية وهو يدس في جيبي حزمة من النقود الورقية اكثر بكثير من الرقم الذي طلبته على سبيل الضجر ..لم اصدق ما حدث ..الا بعد مرور وقت من الذهول .. كان المساء في اوّله لما حدث ذلك ..فقد انتشلني الرجل من عاصفة على وشك الهبوب عاصفة من الشتائم والصفعات اللاذعة . عاصفة تهبّ من بدني امّي , من لسانها ويديّها .. امّي التي طلبت مني ان لا اعود خالي الوفاض ..قبل ان ارفع وجهي عن عينيّ الرجل , لمحت خيطا مضيئا من الدموع يشع في عيني الرجل ..لم اقل شيئا .. ولكني اتذكّر , اني جريت بقوّة ../ انتهت

سعدي عباس العبد ... قاص من العراق


..............................................


هناك تعليقان (2):

  1. حصــــــــــــــاد

    سعدون جبار البيضاني /العراق

    يدي الصدئة منقضة على منجل معقوف يعاني من تسوس في بعض أسنانه الا انه ظل يهذي طوال النهار حتى حصاد آخر سنبلة من جوع .

    بعد انتهاء مواسم الذبح هذه ستتعرض السنابل الى عملية الوخز بالإبر حتى انصياعها الى دقيق يحمل جواز سفر مفتوح الى البطون / الآبار ، عشرة ثيران وأنا الحادي عشر ندوس على كومة من السنابل بحركة دائرية نصف قطرها خمسة أمتار قابلة للتوسع بشكل عشوائي .

    منذ الضياء الأول حتى تسربل آخر حزمة شمس معلنة انتهاء النهار /السعي في المناكب وأنا أدور مع الثيران باتجاه عقرب الساعة وعكسه ، حوافرنا تهشم السنابل اليابسة لتحيلها الى حَب ليأخذ مكانه اللائق / طحن ، كلبي البائس ينتظرني خارج الدائرة / البيدر مقعيا بلسان متدل آملا أن يشاطرني في حبة قمح في النية أطحنها لسد رمق جرو يعوي بين ضلوعي .

    الأسبوع الثالث لتاريخ الشروع ، انا والثيران التي اختزل الدوران عددها الى سبعة لازلنا ندور ..ندور ، مطارق القيض تنثال على هاماتنا حتى بانت أضلاع الثيران وتوشم وجهي بالصدأ وقد انفرطت جميع الحبات من سنابلها وأطلق سراحنا بدون كفالة ضامنة .

    نحن بانتظار هبوب الريح كي نذري البيدر المكتوم بترهل واضح لتنحية التبن جانبا عل الثيران تسترد بعض عافيتها .. ثلاثة أيام نصلّي من أجل نسمة ريح ، في اليوم الرابع استيقظنا علة صوت الرعد والعواصف ، استمر المطر يهذي طوال الليل كمسامير فضية مستغلا انزياح الشمس وتراجعها أمام كتلة الغيوم المنخفضة الى حد ما ، قال رجل طاعن في السن قبل أربعين سنة أمطرت بمثل هذا الوقت .. في اليوم التالي كانت القرية قد تحولت الى جزيرة محاطة بالمياه على مد البصر وقد استسلمت بعض البيوت لهذا الطوفان وعام البعض الآخر ، جزيرة خالية من النوارس واللقالق والسمك استثناء من بعض الضفادع والدعانيص ، اعتقد البعض ان البيادر انجرفت باتجاه المبزل الرئيس الذي يصب في نهر سريع الجريان فيما انشغل البعض الآخر بتخمين الحاجة من القوارب التي لايجيدون الركوب فيها متوجسين خيفة من غرق الأطفال ولم تتمكن النسوة من إخفاء غبطتهن بعد تحويل نمط المعيشة من الزراعة الى الصيد وهن يحلمن بالنزهة في قوارب صغيرة ...

    ردحذف
  2. اسرة تحرير الثقافي ثقافي
    محبتي لكم ..يسرني جدا التواصل معكم عبر موقعكم الجميل وفاتحة مشاركتي قصة حصاد املا ان تروق لكم مع التقدير
    سعدون جبار البيضاني
    قاص وروائي عراقي

    ردحذف