المشاركات الشائعة

السبت، 8 فبراير 2014

عبد الكريم قاسم ...خسرهُ العراق ..... - في ذكرى أستشهاده في 9 شباط ، 1963 - د . جاسم الياس .. العراق ..................







                   










عبد الكريم قاسم ...خسرهُ العراق .....

-
في ذكرى أستشهاده في 9 شباط ، 1963 -
د . جاسم الياس .. العراق

بعد مضي خمسة عقود ونيف ، لا يزال عبد الكريم قاسم دائم الحضور ، حضوره في قلوب فقراء جبل سنجار
الذين هتفوا له في لغتهم الكردية : " عاش عبد الكريم ، استبدل شعيرنا بالقمح " ، في قلوب أهالي مدينة الثورة ، في قلوب الكادحين وذوي الدخل المحدود ، هؤلاء كلهم يستذكرون دلالة وفاء مَن تفانى في خدمتهم دون أنْ ترتبط خدمته بساعات دوام ، ارتبطت بكل جزيئات الوقت ، حالة نادرة في تاريخ القادة في العالم، القديم منه والمعاصر ، ويكفيه هذا فخرا ، يكفيه أنه رجل الدولة الأول الوحيد منذ نشوء أول حضارة في وادي الرافدين قبل أربعة آلاف عام مَنْ أنهمك في بناء وطنه وفي تحرير فقراءه من أغلال الاضطهاد ، الوحيد من توحّد مع همومهم في حالة صوفية خالصة ، حالة توحد الجزء مع الكل ، في لحظات الانتصار في 14 تموز ، 1958، أمام باب وزارة الدفاع ، ربت على كتف جندي مجاور وهو يقول : " سأنقذك من الفقر نهائيا "، وفي لحظات النهاية في 9 شباط ، 1963 في دار الإذاعة ، وأمام رصاص قاتليه هتف صنديدا، رابط الجأش : " عاش الشعب .." ، وإذ خرج من الدنيا بكاه الملايين ، الكثيرون أنكروا خبر مصرعه ، توهموا صورته في القمر و تحدثوا عن قرب ظهوره ، وهو ما يرمز إلى التشبّث به ، تتويج لم يحظى به من أعقبوه ومن سبقوه من رؤساء الحكومات في العهد الملكي ، 1921-1958 ، رغم تطور العراق في حقبتهم ، في صبيحة 14 تموز تسلم الضباط الأحرار من الملوك الهاشميين الثلاثة عاصمة جميلة فيها معاهد موسيقى ودور سينما ، مسارح ومكتبات عامة ، متنزهات وروضات أطفال ، ومدنا على غرارها تضم شوارع مبلطة ، مشاريع إسالة ماء ، أعمدة كهرباء ، مراكز صحية ومدارس ، تسلموا بلدا فيه صناعات خفيفة ومتوسطة ، سدود ري عملاقة ، مصافي نفط ، مؤسسة جيش راسخة ، وسائل إعلام مسموعة وغير مسموعة ، وغيرها من أسباب الحضارة ، وهو ما حُجب عن العراق طيلة حكم الدولة العثمانية ، لم يكن ثمة شارع واحد مبلط فيه في 1921 حتى في بغداد ، فتأمّلْ ، وحصل ذلك التطور الملموس في أجواء مالية محدودة نهبت فيه شركات النفط الاحتكارية ثروة النفط ، عمود الاقتصاد الرئيس ، غير إن حكومات تلك الحقبة غضّت النظر عن الريف الذي يشغل معظم مساحة العراق ، فرزح فلاحوه ، أي غالبية سكان البلد ، تحت نير الفاقة ، مما أفضى إلى إختلال في قيم العدالة الاجتماعية والاقتصادية ، قرى منطقة الشيخان ، شمال مدينة الموصل ، مثلا ، دخلت المدارس الابتدائية فيها مع بداية الخمسينيات وفي البعض منها فقط ، وغصّت قرى الجنوب ، الوسط وكردستان في ذات التخلف بمحاذاة غياب الخدمات الصحية والبلدية ، ودعمت تلك الحكومات الإقطاعيين وطالما اضطهدوا الفلاحين ، كانوا يـُجلدون ، يـُسجنون ، ويكدحون مع تتابع الفصول والحصاد قبض من ريح ، و عزّز سلطتهم قانون دعاوى العشائر السيئ الصيت حيث قنّن الأعراف البالية وهي في العديد من ممارساتها تهبط إلى مستوى الجريمة . وجاء الزعيم و ومعه طموح هائل في بناء عراق متطور في ريفه ومدنه وفي أجواء الحرية والعدل . وشمر عن ساعديه في ترجمة مفردات هذا الحلم النبيل إلى أرض الواقع حال دخوله وزارة الدفاع ، في أربعة سنين ونصف لا غير من جهد دءوب ومثابر ، مكثــّف وجبّار حقق بطولات خارقة من العمل الجاد المثمر وهو ما يجب أنْ تقاس عليه بطولة قائد أي شعب ، في هذه الفترة القصيرة جدا أنجز عبد الكريم قاسم مئات المدارس ،المستشفيات ، المراكز الصحية في الألوية و الأقضية ، النواحي والقرى ، ست وثلاثون ألف وحدة سكنية للفقراء ، قنوات و سدود ري ، كليات ومعاهد ، جامعة بغداد ، مدينة الضباط ، مدينة الثورة ، الشعلة ، دار الطلبة في بغداد وأقسام داخلية أخرى آوت أبناء الكادحين ، طرق داخلية وخارجية ، جسور و مشاريع سياحية ، صناعات خفيفة و مراكز مكافحة الأمية ، مجانية التعليم والتطبيب ، قوانين سامية المضامين ، أبرزها قانون الأحوال الشخصية المساوي بين الرجل والمرأة في الإرث ، قانون تقاعد الموظفين والمستخدمين وسلسلة أخرى من إضافات بنيوية وفوقية لا يسعها إلا بحث مستقل . و في عهده خرج العراق من حلف بغداد ، الدينار من دائرة الجنيه الإسترليني ، ألغيت قاعدتا الحبانية والشعيبة البريطانيتين ، صُدر قانون رقم 80 الذي حرّر 90% من الأراضي من هيمنة شركات النفط ، وإنجازات نفطية أخرى ( قال للوزراء قبيل توقيعه على القانون :" تعالوا نوقّع على إعدامنا .." ). إن الجانب الآخر الذي يضع عبد الكريم قاسم في مصاف العظماء يتجسّد في بساطته وتواضعه ، عفة يده ولسانه ، و زهده في متاع الدنيا ، شهيدا ً، وجد قاتلوه في جيبه ورقة نقدية لا غير، ربع دينار أو أقل أو أكثر بقليل . إن دلالات حياته اليومية تظهر بوضوح التطابق بين فكره النيِّر وممارساته ؛ رفض استلام مخصصات رئيس الوزراء ، ستمائة دينار ، توفيرا لميزانية الدولة ( وهو ما جنبه أيضا حسد زملاءه الضباط الأحرار) ، مكتفيا براتبه كضابط في الجيش : ثلاثمائة دينار ونيف ، يذهب جزء منه لنفقات المطبخ في وزارة الدفاع ، جزء آخر لشقيقه حامد تغطية لوجبة الغذاء اليومية ، جزء ثالث لمساعدة شقيقته الكبرى والبقية توزع على أسر متعففة ، وهذا ما أضطره أن يستدين من مرافقيه بين الحين والآخر ، وأن يعجز أحيانا عن سداد فاتورة هاتفه. و تأكيدا لحرصه على ثروة البلد ، كان يدقق في كلفة المشاريع ، درس عقد شركة أجنبية لشق قناة في بغداد توصل بين دجلة ونهر ديالى ( قناة الجيش )، هاله ضخامة المبلغ ، رفض العرض مستعينا بمديرية الهندسة العسكرية التي أنجزته في فترة وجيزة وبأيدي ضباط مهندسين وجنود تقاضوا أجور عملهم اليومية إضافة إلى رواتبهم ، وبهذا وفـّـر للدولة ثلاثة مليون دينار، مبلغ كبير في حسابات تلك الأيام . ورفض الأعلام المأجور ومؤتمرات التطبيل ، زجر صحفا عربية طلبت منه مكافآت نقدية مقابل الدعاية لحكمه، قال : " آليت على نفسي أن لا أبدد ثروة البلد إلى أصحاب الصحف المأجورة ، بل أصرفها على هذا الشعب البائس المسكين ، حتى يصبح شعبا قويا، مرقها ، سليم التفكير يتمكن من إبداء المعونة إلى أخوته ..." وإلى ذلك ، لازم داره في العلوية، أنف عن المواكب والأبهة وخيلاء السلوك التي يلجأ إليها غالبية المسئولين في أيامنا هذه تغطية لنقص وجهل فيهم ، بقت الأرض سريره في غضون الاستراحة والنوم ، أثاث مكتبه في وزارة الدفاع قد لا يرتضيه اليوم رئيس دائرة : منضدة بسيطة ، وكراسي من معدن ، وجبة الصباح كوب من الشاي والحليب ، وجبة الغذاء تأتيه من دار شقيقه حامد في ال( السفر طاس ) لتوضع على منضدة تغطيها الصحف بدل أقمشة الكتان ، وليضاف إليها حين يشاركه آخرون شرائح شواء تأتيه من مطعم شعبي في شارع الرشيد ، أما ثيابه فبدلتان عسكريتان . وإلى ذلك ، لم يقرب شقيقا ً أو قريبا ً من السلطة ولم يمنحهم أية امتيازات أو مكاسب مالية ، احتفظ شقيقه عبد اللطيف برتبته كنائب ضابط ، ولاحقا طلب من الزعيم إحالته إلى التقاعد مبرِّرا ً : " سيدي لا أريد أن أكون عسكريا ، يعاملني العسكر أخا لرئيس الوزراء ، أخاف أن أسبب لك إحراجا ، أنا إنسان عراقي بسيط .." ويوافق الزعيم . وتسأله ذات يوم شقيقته الكبرى أن تسلمه دارا من الدور التي شيدها للفقراء ، ويسألها الصبر إلى حين أن يوفر الدور لكافة فقراء العراق ، وتخرج من الدنيا بعد أخيها وهي في بيت إيجار . هذه الأمثلة المستقاة من مئات الوقائع المماثلة لا تظهر عظمة عبد الكريم قاسم العملية والفكرية فحسب ، تظهر أيضا إن العراقيين في غالبيتهم العارمة ظفروا بمن انتظروه طويلا ، وأي شعب مقهور، محروم لا يلتف حول قائد ينثر بذور الخير بين ظهرانيه ..؟! ذلك كان الزعيم ، رآه الكادحون في أزقتهم المقهورة دون عدسات تلفزيون أو كاميرا أو صحافة ، ودون حماية ، يزورونه في مكتبه أو يلاقونه في الطريق ، قدم ذات يوم منان مع أسرته من البصرة ، وقفوا أمام بوابة وزارة الدفاع ، وإذ أقبل الزعيم ، لوّحوا له ، ترجل من المركبة ، مستفسرا عن الحال والحاجة ، اخبره منان انه عمل (فراشا) في شركة نفط البصرة وان الانكليز فصلوه " لأني وطني وأحبك " ، أبتسم الزعيم وطمأنه إن الحق لا يضيع في زمن الثورة ، و دعاهم إلى تناول الغذاء معه في مكتبه ، غلبت الأسرة حالات الدهشة والفرح ، بعد تناول الغذاء أرسلهم إلى داره للترويح من وعثاء الطريق ، وقد استراحوا، رجعوا إلى البصرة وفي يد العامل المغبون كتاب إعادة التعيين ، وفي قلبه وقلوب عياله شوق لا يحد للرجل الكبير، ودون شك ، لو شاء الزعيم لحال بين هذا الكادح وبينه ، لم يكن ذاك ديدنه ، أبقى اللقاء المباشر بينه وبين الأهالي لتيسير الأمور العالقة ، وللإطلاع على مكامن الخلل. ذلك كان عبد الكريم قاسم ، في زمنه سار الفلاحون لأول مرة في تاريخ وادي الرافدين مرفوعي الرؤوس بعد قرون وقرون من الاستغلال البشع ، ساروا و قاماتهم تزهو ببزوغ شمس الحرية على أشلاء مخالب الإقطاع الغاشمة ، أي ظلم كان أن تسطو ثلاثة أو أربعة أسر على 99% من أراض الجنوب الخصبة ، وأن يستعبد الفلاحون ، وهم لا يجدون حاضرا أو غدا مشرقا لأسرهم ، أنقذهم الزعيم عبر قانون الإصلاح الزراعي دون أن ينتقم ، دون أن يحيل الإقطاعيين إلى سدة القضاء رغم مطالبة ضحاياهم ، لم يفعل ْ ، شدد باتجاه التسامح ، الخصلة المتأصلة فيه والتي أعدمته الحياة من قبل من ملأت قلوبهم الضغينة ، أوصى ب" دفن الأحقاد الماضية والجلوس مع المزارع الكبير والمزارع الصغير والفلاح الذي كان مستغلا في السابق على أساس عادل وعلى أساس المنفعة المتبادلة بين الاثنين وعلى أساس إنهما من أبناء هذا الشعب ويجب أن يعيشوا في هذه البلاد عيشة مرفهة ورغيدة ..." .. ذلك كان عبد الكريم قاسم ، يرفع المصابيح تلو المصابيح لإضاءة الدهاليز، يحلم بعراق يعلو إلى مصاف السويد في 1980، قالها قبل استشهاده بأشهر. حتى وهو في المستشفى بعد محاولة اغتياله، نوفمبر 1959، تغلبه شجون المواطنين ، قال: " أتعلمون لماذا اعتدى هؤلاء علينا ؟ لأنني كنت بحاجة إلى الراحة، ولتوفير الوقت فلم أضيع لحظة واحدة من وجودي في هذا المستشفى... لقد كنت في جدال مع الأطباء، هم يريدون لي الراحة، ولكن راحتي في مخاطبة الشعب، أنا دوما مع الحق والشعب.." . ذلك كان الزعيم ، الذروة في نكران الذات ، و لو أمتد به الحكم لحقق حلم العراقيين كاملا بعد أن أوقفه على قدميه ، يسامره عشرين ساعة في اليوم وأحيانا لا ينام ، مؤكدا " إن ساعة عمل خير من ألف ساعة كلام " وأنْ " نخدم هذا الوطن وان نخدم هذا الشعب من أقصى البلاد في الشمال إلى الجنوب ، إلى الشرق إلى الغرب حتى نرفع مستواه ...ونزيل هذه الصرائف البالية والدمادم والبيوت الخربة وتحل محلها البيوت المريحة التي تليق بكم وبأبناء الشعب المرفه والتي تتماشى مع ثروة الوطن ، إن الثروة المتيسرة في بلادنا ثروة جسيمة ولكنها كانت منهوبة في السابق ، وإنني عاهدت الله أن لا ادع أي جزء منها يتسرب إلى جيوب المستعمرين مطلقا.." . ذلك كان رجل الحضارة ، مقت العنف وأملى أقل كمية منه وعبر القانون في صيغة تصديق أحكام صدرت من محاكمات علنية ضد أقطاب العهد الملكي ، والذين حاولوا اغتياله وشاركوا في حركة الشواف مخففا أو ملغيا بعضها ، وعلى ضوء قوله المأثور " الرحمة فوق القانون " و" عفا الله عما سلف " ، ألغى الإعدام عن عبد السلام عارف بعد أنْ حاول اغتياله و أخلى سبيله لاحقا ( عبد السلام عارف في 9 شباط قابل هذا التسامح بالنقيض ، تحمس لقتل عبد الكريم قاسم معلمه في الكلية العسكرية الذي علمه دروسا في الوطنية وكره الاستعمار، و أدخله في الهيئة العليا للضباط الأحرار ، والذي قاد الثورة ، والذي أكثر من هذا كله عفا عنه بعد أن أصدر ضده حكم الإعدام من المحكمة العسكرية العليا الخاصة ، نعم وافق عبد السلام عارف على إعدام عبد الكريم قاسم صديقه القديم وأستاذه ، وهو الذي كان يردد قبل الثورة أمام الضباط الأحرار " ماكو زعيم إلا كريم " ، وهو الذي قدّم نفسه رائدا للعروبة في العراق والعروبة الحقة تؤكد على وفاء التلميذ لمعلمه ، من علّمني حرفا ملكني عبدا ، وعلى حرمة الصداقة ومبادلة الإحسان بالإحسان ) . وعفا الزعيم أيضا عن البعثيين ، بينهم صدام حسين ، الذين أطلقوا الرصاص عليه في شارع الرشيد ، و لم يلجأ يوما إلى اغتيال خصومه السياسيين ، التنصت عليهم أو وضعهم تحت رقابة دائمة ، ولم يقمع المتظاهرين القوميين والشيوعيين في أواخر حكمه ولم يرعى المؤسسات الأمنية تاركا أمرها إلى رؤساءها دون أن يدلي بدلوه في شؤونها. ذلك كان رجل التسامح ، خطب يوما في الحشود ، بعد حركة الشواف ، وتعالى الهتاف : " اعدم ..اعدم.. " أحتد غاضبا ، نهرهم أن يكفوا عن حديث الموت والحبال ، وأن يطالبوه بدل ذلك بتشييد مدرسة أو إنشاء مصنع ، قال في مؤتمر صحفي ،29- 7- 1959 ، " إني أطلب منكم أن تقلعوا عن الكتابة عن أية مؤامرة ، وإنه لتردي في الخلق أن ينشأ الأطفال على مثل هذه العبارة ( ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة ) وغيرها من العبارات الهمجية والوحشية .." . ذلك كان رجل النشاط المنتج، عمله يسبق القول، وصوته يعلو بعد كل أنجاز، يعلو هادرا ً: " إنني نصير الفقراء، ونصير العامل والفلاحين ونصيركم وإنني نصير المرأة وانتصر لها.. إنني سوف أفنى في سبيل خدمة الشعب وبعد مماتي، سوف تبقى روحي نصيرا له " لكن من أين أتاه حب الشعب..؟! أتاه لأنه خبر قسوة العيش في طفولته وشبابه: " إني ابن الفقراء، أنني فقير.. شخص فقير وجدت وعشت في حي الفقراء وقاسيت زمنا طويلا مرارة العيش، ولكننا نملك الغنى، غنى النفس، وكنا نملك الغنى، غنى الإباء..." وإذ لانت له أسباب العيش في مؤسسة الجيش ، لم ينسى جذوره مثلما نسى وينسى كادحون في المعمورة حيث انقلبوا و ينقلبون وبالا على طبقتهم حال وصولهم إلى مراكز السلطة . وفي وفاءه هذا، عكس عبد الكريم قاسم خلقا نبيلا أستمده من ثقافة واعية و من تنشئة اجتماعية هادفة في كنف والد كادح ووالدة طيبة القلب غرزا فيه قيم الخير"، قال : " كان والدي عاملا بسيطا مثل بقية العمال وأصبح مزارعا بسيطا خدم هذا الشعب ، ثم أصبح كاسبا يعمل على حصول القوت اليومي بشرف وإباء ، وقد أوصانا ، أوصانا ونحن أبناؤه بنصرة الفقير والكادحين ونصرة الحق والعدل وان لا تأخذنا في الحق لومة لائم ..." . وفي مؤتمر عمالي آخر ارتفعت عقيرته : " إني واحد منكم... أنتم عائلتي وقبيلتي ... عندما أنظر في وجوهكم تصيبني قوة وأنقاد إلى مساعدة الكادحين في كل مكان .." . ويتألق شموخ عبد الكريم قاسم ، في يومي الثامن والتاسع من شباط ، وهو بين الحياة والموت ، لا يتزعزع قيد شعرة عن شجاعة معهودة فيه شهد لها أعداؤه قبل أصدقاءه ، وعن المبادئ التي حملها في ضميره ، وفي مقدمتها سيادة العراق ، يروي مرافقه المقدم الركن حافظ علوان الذي كان إلى جواره في اليومين المذكورين في وزارة الدفاع ، وحمم النيران تنهال عليهم ، يروي : " في هذه اللحظات بالذات..دق جرس الهاتف وهذه الحادثة شيء مهم جدا، لم أقرأ عنها في أي مكان ،ولم يتطرق لها أحد طيلة عقود مرت على نهاية عبد الكريم قاسم ، ولم تذكرها الرسائل الجامعية بجميع اتجاهاتها ، أو أي كتب أخرى صدرت في الداخل أو الخارج ، لأن شهودها هم ثلاثة أشخاص : عبد الكريم قاسم ووصفي طاهر وأنا ، وأنا الشاهد الوحيد المتبقي بعد رحيلهما ، وللأمانة التاريخية يجب تثبيت هذه الحادثة خدمة لتاريخنا العراقي السياسي الحديث ... أقول لك في تلك الساعات العصيبة دق جرس الهاتف وتحرك وصفي طاهر نحوه، وتكلم مع الطرف الآخر الذي كنا نجهل من يكون..ثم ترك الهاتف وقال لعبد الكريم قاسم:" إن السفارة السوفيتية على الخط وتطلبك.." ولكن عبد الكريم طلب من وصفي إكمال حديثه مع المتحدث نيابة عنه والاستفسار منه عن الرسالة التي يرغب في إيصالها.. وأكمل وصفي الحديث ، وضع السماعة جانبا وقال لقاسم:" إن السفارة تود إخبارك بأنهم على استعداد للاتصال بموسكو لتدبير إنزال عسكري سوفييتي على بغداد خلال 12 ساعة من الآن أو حتى خلال هذه الليلة.." ، فرد عبد الكريم قاسم قائلا:" لا.. أنت خابرهم وقل لهم إحنا لا نحتاج إلى مثل هذا الإنزال.. إني ما أريد أبدل.. إحنا خلصنا البلد من استعمار الإنكليز، وما أريد أن أبدل استعمار إنكليزي باستعمار روسي " . رفض قاسم هذا العون فورا ودون أن يفكر فيه وهو يوشك على الموت ما دامت تمس سيادة البلد مجسدا القول المأثور : " ماذا يهم إن خسرت نفسي وربحت العالم " . وجسّد مبدأه الآخر في حرصه على حقن الدماء، في اليوم الأول من الانقلاب، طالبته الجماهير المحتشدة أمام وزارة الدفاع بالسلاح الذي كانت تعج به مخازن الوزارة، اعتذر عن نداءها بالقول: " لا أريدها حربا أهلية.."، ولو لبى طلبها لأجهزت على الانقلابيين مثلما فعلت بأسلحتها البسيطة مع رتل الدبابات الأول المهاجم . قائد مدهش بمثل هذه الغيرية ، بمثل هذه الحمية في بناء العراق ، وبمثل هذه الروح الوطنية ، قائد كعبد الكريم قاسم لا يحظى به العراق كل مرة ، لا يحظى العراق دائما برئيس دولة كل نشاطه ينصبّ حول بناءه ورخاء شعبه ، نموذج حضاري كهذا ألم يكن يفترض في قيادات الأحزاب دعمه كما دعمه المواطنون ، ألم يفترض فيهم تناسي خلافاتهم ، صراعاتهم ، والالتفاف حوله في بناء العراق ، في تطوير البنى التحتية لريفه ومدنه ، في أنجاز المشاريع الإستراتيجية في قطاعات الزراعة والري والصناعة ، هذا كان وما يزال مطلب العراقيين الأول،وهل هناك أولوية أهم ولا سيما في واقع متخلف من أولوية البناء ، والعلو بالفقراء إلى مستوى الأغنياء ، الأولوية التي بدأ بها الغرب قبل نشوء واستكمال المؤسسات الديمقراطية فيه ). من المحبط حقا أنّ من بين عشرات الشعارات التي عممتها قيادات الأحزاب في المسيرات الشعبية الحافلة لا أظن أن لافتة واحدة برزت تدعو الزعيم إلى المضي قدما في أعمار العراق ، إن الديمقراطية تبقى محض خداع زائف بين مخالب الفقر والجهل والمرض ، ولا حرية بين مخالب هذا الثالوث البغيض ، إن الشعب المقهور ما يهمه كبداية هو تحرره من الانحطاط المعيشي ، تهمه دور سكن مريحة ، شيوع التعليم والخدمات الصحية ، توفير الكهرباء و شبكات إسالة الماء ، المعامل والمصانع ، روضات أطفال ، مكتبات عامة ، متنزهات ، ضمان الحقوق وفق قاعدة المواطنة ، هذه هي أولويات الشعوب المحرومة ، وهذا ما اضطلع به عبد الكريم قاسم في حماس لا نظير له منجزا الكثير منه في فترة حكمه القصير ، وهذا ما أثلج قلوب العراقيين فالتفوا حوله ، فلماذا لم تركن قياداتها إلى رغبات الشعب هذه ..؟ إن قيادات الأحزاب لم تولي مشروع عبد الكريم قاسم الحضاري في بناء العراق أولويتها الرئيسة ، تمحورت أولوياتهم حول تفعيل مطالبها السياسية ، وبدوره طالب الزعيم بالتريث إلى حين انتهاء الفترة الانتقالية ، مما أفضى إلى تفاقم الخلاف بينهم . وفي هذا ، يضطلع قادة الأحزاب القومية في تلك الفترة مع مجموعة ضباط قوميين بالمسئولية التاريخية فيما آلت إليه أوضاع العراق من تردي وخراب ، أقول المسئولية التاريخية لأن كل اهتمامهم أنصب على كيفية تسلم السلطة وبذريعة تحقيق الوحدة العربية ، وهو ما يعكس أن مسألة أعمار العراق وخدمة فقراءه أو الديمقراطية لم تشغل أية فاصلة في برامجهم ، لو شغل لآزروا عبد الكريم قاسم في مشروعه الحضاري متخذين من تجربة الضباط الأحرار في مصر قدوة لهم ، طيلة سبعة عشر عاما لم يتحرّك أي منهم ضد قائد ثورة يوليو جمال عبد الناصر ، دعموه دون كلل وبإخلاص في مشاريعه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتحقق مصر شوطا معتبرا في هذا الصدد ، وفي ذلك تجسيد واضح لثقافة واعية لم تأبه ببريق السلطة ، أبهت بخدمة البلد وفي أي موقع يكون . لقد خطط أولئك القوميون و لعلمهم إن صناديق الانتخابات لن توصلهم إلى سدة الحكم لضآلة نفوذهم في الشارع ، خططوا منذ الأشهر الأولى للثورة للإطاحة بعبد الكريم قاسم وهو في عنفوان شعبيته ، وأجواء الديمقراطية شاخصة للعيان ، مثلا محاولة البكر وعماش للإطاحة به في أيلول 1958 ، محاولة عبد السلام عارف لاغتياله في 11 تشرين الأول في 1958 ، حركة الشواف في 7 تشرين الأول 1958 ، محاولة البعث عبر اغتياله تمهيدا لتسنم السلطة في 7 تشرين الثاني 1959 ، ولا يــُـنسى استقالة الوزراء القوميين في 4 شباط ، 1959 من حكومة الوحدة الوطنية ولإسباب غير مبررة ( عبد الجبار الجومرد ، قومي مستقل ، فؤاد ألركابي ، بعثي ، محمد صديق شنشل ، حزب الاستقلال ، محمد صالح محمود ، ناجي طالب ، قومي مستقل ) إلى جانب بابا علي شيخ محمود ، كردي مستقل ) .واستمر التحرك القومي المضاد ، و تم لحزب البعث ومجموعة ضباط من تيارات قومية إسقاط السلطة الوطنية في 8شباط 1963 ، قتلوا عبد الكريم قاسم دون محاكمة ، وبينهم العديد من تلامذته في الكلية العسكرية في الثلاثينيات من القرن المنصرم ، وحرموه حتى من قبر بعد أن رموا جثمانه الطاهر في نهر دجلة الذي فرح دون شك أن يحتضن أبنا بارا طالما أخلص له و لأرضه الطيبة ( دعمت الانقلاب دوائر أجنبية أثار هلعها وطنية الزعيم وتأميمه النفط في الأراضي الغير مستثمرة ، وخوفها من مجئ حكومة يسارية بعد إجراء الانتخابات ، وهو ما كشف عنه النقاب علي صالح السعدي ، مخطط الانقلاب وأمين سر قيادة البعث في تلك الفترة ، صرّح بعد طرده من السلطة في نوفمبر 1963 : " جئنا بقطار أنكلو- أمريكي.." ويروى إن الرئيس الأميركي الأسبق جون كندي هدد بحرق بغداد إذا أخفق الانقلاب ، ) . إن التيار القومي المضاد أستند في تحركه إلى المبرّر الرئيس القائل إن عبد الكريم قاسم " شعوبي " يعادي تطلعات الأمة العربية في الوحدة لكونه رفض الاندماج مع الجمهورية العربية المتحدة المكونة من مصر وسوريا ، وهو ما يناقض الحقيقة ، أتسمت رؤية الزعيم للوحدة العربية برحابة الأفق ، مال إلى التضامن بدل الاندماج في صيغة اتفاقيات ثقافية ، عسكرية وتجارية بين البلدان العربية ، كان يؤكد إن وحدة الضعفاء لا تجدي ، تجدي وحدة الأقوياء . وهذا ما استنتجه بعد " خراب البصرة " صبحي عبد الحميد ، الوزير الأسبق في حكومة عبد السلام عرف، والأمين العام الحالي لحركة التيار القومي العربي في العراق ، قال في 16-1-2008 " كنا ننادي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي بالوحدة الاندماجية ثم الوحدة الفيدرالية والآن ننادي بالوحدة على الطريقة الأوروبية ..." ، وتلك كانت رؤية عبد الكريم قاسم الذي يحفل سجله بوقوفه مع الأمة العربية ، ولا أدلّ من ذلك أدواره البطولية في حرب فلسطين ، 1948 ، حاز بسببها على نوطي شجاعة ، في دعمه ماليا ومعنويا ثورة الجزائر وثورة عمان والقضية الفلسطينية ، وفي دعوته وفد مصري عسكري زائر لوضع خطة حرب شاملة ضد إسرائيل ،اعتذر الوفد لطلبه ، هذه وغيرها من الحقائق تؤكد ركونه إلى قوميته العربية ووحدة صفها بعيدا عن حماس الشعارات . ترى ماذا قدّم الإنقلابيون ومن أعقبهم في هذا المجال ..؟ بعد دخولهم القصر الجمهوري وضعوا ملف الوحدة العربية على الرف، وأول من وضعه هو عبد السلام عارف ( ناشده الإتحاد الاشتراكي في القاهرة بعد توقيع إتقاقية التنسيق بين مصر وسوريا في 26 مايس ، 1964 بمثابرة السير في طريق الوحدة ، فقال : " أنا الذي سأخسر وليس عبد الكريم فرحان ولا صبحي عبد الحميد ." ) . لقد أوحى لاحقا العميد الركن عبد الكريم فرحان أحد قادة القوميين في العراق في العراق وأحد الضباط الأحرار الذين خطط أيضا للإطاحة بعبد الكريم قاسم بخطأ موقفهم حين قال :" مهما قيل في عبد الكريم قاسم أو وصف أو نسب إليه بدافع الكراهية أو الحب ، فقد كان وطنيا مخلصا ، شجاعا ونزيها ً " و" حرص عبد الكريم قاسم على تطبيق القانون والتعليمات ، ولم يستخدم صلاحياته الواسعة لمنفعته الشخصية أو لمنفعة أقاربه .." . لقد كان من المتعذر نجاح انقلاب 8 شباط لو دُعم الزعيم من قبل قيادات الأحزاب الثلاثة ذات الرصيد الشعبي : الشيوعي العراقي ، الوطني الديمقراطي ، الديمقراطي الكردستاني عبد الكريم قاسم . وكان يتوقع منهم مثل هذا الدعم لأن انتصار الانقلابيين معناه وضع خاتمة لأي مستقبل ديمقراطي ، في حين إن استمرار الزعيم في السلطة خير لهم وللبلد ، فقد بدأ بداية طيبة في إرساء لبنات الديمقراطية ( حرية الأحزاب ، حكومة الوحدة الوطنية ، حرية الصحافة، انتخابات النقابات المهنية ) ، والمتبقي تمثل في إلغاء الفترة الانتقالية ، إجراء انتخابات البرلمان ، سن الدستور الدائم وحدد قاسم تموز 1963 للشروع فيها ، وكان قد كلّف لجنة خبراء لإعداد مسودة الدستور الدائم ، فأين كانت تكمن الإشكالية فيما لو تريثوا في الفترة الانتقالية ،..؟ أما كان يملي انهماك الزعيم في بناء البلد مثل هذا التريث..؟ إن التفاعل في بعديه الاجتماعي والسياسي ينتج آثارا إيجابية من بينها سماع الأطراف المتفاعلة لآراء وتوجيهات بعضها الآخر، فهل منح قادة الأحزاب الثلاثة الزعيم فرصة التفاعل هذه...؟! وهل جعلوه يثق بهم ..؟ ألم تكن الثقة ترسخ بينهم وبينه لو أنهم قبلوا بالفترة الانتقالية التي أصر عليها دون مطالب سياسية كخطوة أولى في رحلة الألف ميل..؟ ولو رسخت الثقة أكان يخطأ في تشخيصه الأصدقاء والأعداء ولا سيما في مؤسسة الجيش..؟ أكان يقرّب ضباطا قوميين اعتقلوا وعذبوا بعد حركة الشواف و يوليهم وحدات فعالة في الجيش ، وهم من قادوا الهجوم على وزارات الدفاع وأسقطوا الحكم ، وشكلوا العامل الحاسم في بلورة الانقلاب..؟! إنها مفارقة عجيبة حقا ، صبروا عقدين ونيف في فترة الحكم الملكي ودخل العديد منهم السجون والمعتقلات ، فماذا كان يضر لو افترضوا إن الثورة لم تحدث وصبروا خمسة سنين أخرى وهم أحرار في عهد جمهورية فتية يقودها زعيم وطني كل همه إسعاد الشعب ، لماذا لم يقرّوا الفترة الانتقالية مركزين فيها مثل الزعيم على مشاريع التنمية والتطوير وخدمة الفقراء والكادحين . إن توخي السلطة أو المشاركة فيها عبر صناديق الانتخابات دفع القيادات الثلاثة إلى المطالبة المستمرة بإلغاء الفترة الانتقالية ، وهو طموح مشروع، لكن يؤخذ عليه التسرّع ، وبخاصة إن الزعيم كان ينجز باستمرار فقرات من برامجهم الاقتصادية ، الاجتماعية والتربوية ،وهنا تبرز مسألة الصراع على السلطة و الأنوية السياسية التي ألحقت وتلحق فادح الضرر بالعراق وإلى حاضرنا هذا ، لا أحد يشك إن إجراء انتخابات في تلك الفترة كان سيفضي إلى مجئ برلمان يساري تتمخض عنه حكومة غالبية أعضاؤها شيوعيون وليبراليون ، وإن ذلك كان سيكون جرّاء إرادة الناخبين ، وهو جوهر الديمقراطية ، وإن أعضاؤه و يعرف عنهم الكفاءة ، النزاهة والإخلاص كانوا سيتفانون في خدمة البلد ، لكن مجئ مثل هذه الحكومة اليسارية ألم يكن يفاقم من التحرك المضاد وبخاصة من قبل كارتيلات النفط وحلف السنتو، والجمهورية لم ترسِّخ أقدامها بعد ،و تجاورها حليفتان للغرب ، والجو هو جو الحرب الباردة بين الإتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية .. ؟ هذا القلق المشروع حال بين الزعيم وبين إلغاء الفترة الانتقالية . وبعيدا عن المشاعر والانفعالات ، نسأل أيضا : وهل كان يمكن للزعيم أو أي آخر مكانه من اليمين ، الوسط أو اليسار في سني الثورة الأولى تفعيل حقوق الكرد المشروعة ، وهو محاط بقادة فرق ، ألوية ، و أفواج ، أكثرهم لا يستسيغون ذكر أسم كردستان ، فكيف له الحديث عن الحكم الذاتي أو حتى اللامركزية وفي بداية سلطته التي يهددها هؤلاء ذو التأثير الواضح في مؤسسة الجيش ، ناهيك عن إن إيران وتركيا كانتا ستقفان بكل ثقليهما ضد مثل هذا التوجه . كان في متاح المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني تأجيل هذه الحقوق التاريخية لفترة انتقالية يطالب فيها الزعيم بتكثيف أعمار كردستان وتطبيق قانون الإصلاح الزراعي بحذافيره ، وهو ما كان سيـُفرحه وهو المولع بالعدل والبناء حيث امتدت مشاريعه أيضا إلى كردستان ،أبرزها سد دوكان ألإروائي . لقد وقف عبد الكريم قاسم مع حقوق الشعب الكردي غير إن التيارات العاصفة التي واجهته حالت دون بلورتها ، أعوزته فترة زمنية مناسبة للبدء في تفعيلها ، ولم يتسرّع الكرد في المطالبة بها ، كبقية القوميات في العراق ما شغل بالهم هو تحسين ظروفهم المعيشية ،الصحية والثقافية ، وتحريرهم من نير الإقطاع ، وتلمسوا توجه الزعيم في هذا الصدد فآزروه ، إلى أيامنا هذه يستذكرونه بالود ، ناهيك عن تقديرهم لما أبداه من تعاطف معهم ، إن عبد الكريم قاسم هو الذي أدرج في الدستور المؤقت فقرة شراكة الوطن بين العرب والكرد مع ضمان حقوقهم القومية ، هو الذي وضع هيئة العلم والشعار العراقي الجديد بما يرمز إلى مثل هذه الشراكة ، وهو الذي رحّب كثيرا بعودة زعيمهم الفذ مصطفى البارزاني مع رفاقه من منفاه في الإتحاد السوفييتي، واستقبلهم بحفاوة وأكرم وفادتهم ، هذه الخطوات الجوهرية وغيرها أضطلع بها دون وجود أي ضغط شعبي في كردستان ، وتمخض تعاطفه مع حقوق الكرد عن قناعة فكرية أشرئب بها في مرحلة مبكرة من عمره ، في برقياته إلى آمريه في غضون عمله كضابط في وحدات الجيش في منطقة بارزان أثناء انتفاضتها ، 1945، وصف البيش مركة ب" الثوار "، وهي إشارة واضحة إلى مشاعره الإيجابية تجاه كردستان، وقد قيم مثل هذه الحقائق البارزاني الخالد فآثر إبقاء الحوار مفتوحا مع الزعيم وتجنب الصدام المسلح معه ، غير إن الأحداث جرت إلى تصدع الأوضاع ومن ثم اندلاع ثورة أيلول ، 1961 ، ويبدو إن قياديين يساريين في المكتب السياسي آثروا العمل الثوري بعد أن رسخت لديهم قناعة ثابتة إن الحقوق لا تؤخذ إلا بالكفاح المسلّح ، ولاسيما إن أجواء تلك الفترة أتسمت بالرومانسية الثورية ، أجواء كاسترو وجيفارا ، وتركت آثارها فيهم ، وكان في المتاح تغليب آليات الحوار . يا للخسارة ، وأية خسارة ، مهّد عدم تريث قيادات الأحزاب الثلاثة لفترة انتقالية وعدم دعمهم الزعيم بعد وضوح نوايا التيار القومي المضاد في الاستحواذ على السلطة إلى حصول انقلاب 8 شباط ، 1963 الذي جر العراق إلى سلسلة المآسي ، لم يتريثوا لخمسة سنين وتريثوا اضطرارا لأربعة عقود ذاق فيها الشعب مرارة الويلات والنكبات والأهوال التي لا تزال آثارها تخيم علينا ، ناهيك عن تعثر و توقف مشاريع الأعمار ، ترى من يتحمل المسئولية الأكبر في رحلة العذاب الطويلة هذه ، قيادات الأحزاب أم عبد الكريم قاسم ..؟ هنا لا بدّ من تضمين تقييم السيد رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني لقائد ثورة 14 تموز :" إني أسمح لنفسي أن أبدي ملاحظاتي وأستميح كل مناضلي الحزب الديمقراطي الكردستاني والشعب الكردي الذين مارسوا أدوارهم في تلك الفترة عذرا لأن أقول وبصراحة بأنه كان خطأ كبيرا السماح للسلبيات بالتغلب على الإيجابيات في العلاقة مع عبد الكريم قاسم مما ساعد على تمرير مؤامرة حلف السنتو وعملائه في الداخل والشوفينيين وإحداث الفجوة الهائلة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وعبد الكريم قاسم ، فمهما يقال عن هذا الرجل فإنه كان قائدا فذا له فضل كبير يجب أن لا ننساه نحن الكرد أبدا ، لا شك أنه كان منحازا إلى طبقة الفقراء والكادحين وكان يكن كل الحب والتقدير للشعب الكردي وكان وطنيا يحب العراق والعراقيين وكان التعامل معه ممكنا لو أحسن التقدير ، يتهم عبد الكريم قاسم بالانحراف والدكتاتورية ، أتساءل هل من الإنصاف تجاوز الحق والحقيقة ؟ لقد قاد الرجل ثورة عملاقة غيرت موازين القوى في الشرق الأوسط وألهبت الجماهير التواقة للحرية والاستقلال وشكل أول وزارة في العهد الجمهوري من قادة وممثلي جبهة الإتحاد الوطني المعارضين النظام الملكي ومارست الأحزاب نشاطها بكل حرية . ولكن لنكن منصفين ونسأل أيضا من انقلب على من ؟ إن بعض الأحزاب سرعان ما عملت من أجل المصالح الحزبية الضيقة على حساب الآخرين وبدلا من أن تحافظ أحزاب الجبهة على تماسكها الذي كان كفيلا بمنع عبد الكريم قاسم من كل انحراف ، راحت تتصارع فيما بينها وبعضها تحاول السيطرة على الحكم وتنحية عبد الكريم قاسم ناسية أولويات مهامها الوطنية الكبرى ، إني أعتبر أن الأحزاب تتحمل مسئولية أكبر من عبد الكريم قاسم في ما حصل من انحراف على مسيرة ثورة 14 تموز ... إن عبد الكريم قاسم قد انتقل إلى العالم الآخر، ويكفيه شرفا أن أعداءه الذين قتلوه بتلك الصفة الغادرة فشلوا في العثور على مستمسك واحد يدينه بالعمالة أو الفساد أو الخيانة. واضطروا أن يشهدوا له بالنزاهة والوطنية ، رحمه الله. لم أكره عبد الكريم قاسم أبدا حتى عندما كان يرسل أسراب طائراته لقصفنا ، إذ كنت أمتلك قناعة تامة بأنه قدم كثيرا لنا ، كشعب وكأسرة ، لا يتحمل لوحده مسؤولية ما آلت إليه الأمور . ولا زلت أعتقد أنه أفضل من حكم العراق حتى الآن ". ذلك كان هو عبد الكريم قاسم ، ينتمي إلى مدار الإنسان ، طاهر الأثواب ، عفيف اليد واللسان ، رحب الأفق ، نير التفكير ، يوفر تكافؤ الفرص للمواطنين ، عدو لدود للطائفية ، للتعصب الديني والعرقي ، للفكر الشمولي وحرب الطبقات ، محب للأمة العربية ، للكرد و التركمان ، للآشوريين والكلدان ، للأرمن والسريان ، يعتز بدينه المسلم ، يحب الأيزيديين والكاكئيين ، المسيحيين والصابئة ، لا بله يحب كل الأديان ويرعى حقوقها ، يبني كل يوم ، يخطط لأمومة سعيدة وطفولة وشيخوخة مريحتين ، يزوّد الصغار كل يوم في المدارس بوجبات غذاء غنية تغنيهم عن الحرمان في بيوتهم ، يذود عن حقوق المرأة ، يدعو إلى الرفق بالحيوان ، يشدّد على الهوية العراقية في مجتمع متباين الأعراق والأثنيات ، الأديان والمذاهب ، فتترنم الألسن بالوطن والوطنية ويمشى الوعي الجمعي في هذا الاتجاه أمام تراجع الو لاءات التقليدية . الويل لقاتليه، لم ينتموا يوما إلى آلام وعذابات العراقيين ، قتلوه تلهفا للسلطة لا غير، الويل لهم ، لم يدعوه يكمل بناء العراق، لم يدعوه يواصل مسيرة الرخاء والحرية والعدل .

*
قول الزعيم هذا والأقوال التي سبقته مستلة من كتاب " مبادئ ثورة 14 تموز في خطب سيادة الزعيم عبد الكريم قاسم "، بغداد مطبعة الحكومة، 1959، وقولان آخران مستلان من كتاب ( قراءة أولية في سيرة عبد الكريم قاسم، د. عقيل الناصري ، دمشق ) ص : 160 ، كذلك أنظر ص 198 .وتقييم السيد مسعود البارزاني مستل من نفس المصدر ، ص: 154-155 . وحديث حافظ علوان مستل من كتاب" اغتيال الحقيقة، عبد السلام عارف وإشكالية الكتابة في تاريخه السياسي، طالب الحسن، مكتبة اليقظة العربية، دمشق، 2004 نقلا عن كتاب: عبد الكريم قاسم، البداية والنهاية، شامل عبد القادر، ص 341 ". كذلك أنظر ص : 48 . أنظر أيضا كتاب كتاب: التطورات السياسية الداخلية في العراق ، د. عبدالفتاح البوتاني ، دهوك ، 2007 ، ص381 .

______________________________________________________