أنا وظلّي .. قصة قصيرة
عبدالكريم الساعدي .. العراق
عرفتهُ منذ أجتياح فيضان الغضب والوجع قريتنا ،
ذلك الغول المدمّر الذي لم يترك لنا شيئاً سوى الهروبِ الى أمكنة وأزمنة لم
نألفها من قبل ، التقيتهُ أول مرّة وأنا في الرابعة من عمري ،حينما سمعتُ بعض
الأحذية تجوب مكاناً كنتُ وحدي أسير فيه، التفتُ ، لم أرَ شيئاً تملّكني الفزع ،
أعتقدتُ أنّ أحدَ الأشباح يلاحقني، كانتْ تسميه جدتي (طنطل ) ،تهددنا به اذا لم
نطع لها أمراً ،عدتُ إلى الدار مرتجفاً خائفاً . استغرب أبي حال : : ما بك ؟مِمَّ أنت خائف ؟ . أجبته متلعثماً- - إنه يلاحقني ، يريد خطفي من ؟ - : الطنطل ! ضحك أبي بصوت عالٍ ، وقال - - هل رأيته ؟ وكيف شكله ؟ لاأعرف له شكلاً ،لكنّي
كلما التفت الى الخلف ، يشيح بوجهه عني ، وحين أقف يقف ضمني أبي إلى صدره الحاني
وقبّل رأسي: - لاتخشَ شيئاً ، إنه
ظلّك، ولكلّ منّا ظلّه. حاول تفسير الأمر بعبارات مختلفة ليزيل وهمي ، لكنّي لم
أفهم منّها شيئاًومنذ ذلك اليوم وأنا أكره ظلّي كرهاً شديداً ،كان يرافقني في كل
مكان وزمان ... في الشوارع ، البيت ، المدرسة ..وعلى مدى العمر الذي انقضى وأنا
أفكر بالخلاص منه .كبرت ، تغيرت ملامحي ، شاختْ خطواتي ،حتى المدن والطرقات
تغيرت إلا هو ظلّ نحيلاً شاحب الوجه ، عبوساً ، تعلو ظهره حدبةٌ ،لم يكفّ عنّ
ملاحقتي إلا ليلاً عندما أدخل غرفتي يصفق الباب ورائي ، يتدثّر بملائة الظلمة ويختفي
... في الصباح أراه ينتظرني بشغفٍ شديد ، إنّه يعشقني حدّ الجنون ، لايستطيع
هجري لثانية واحدة حينها أدركتُ أنّي سجّين ظلّي . مرّة سألت أحد أصدقائي: كيف حال ظلّك ؟ أجابني:- - إنّي سعيد به ، رفيق ودود ، يسعى دائماً
لأسعادي . تألمت كثيراً لحظي العاثر ببشاعة هذا الظلّ المقرف .رحت أفكر وأنا
أستنزف ما تبقى من عقلي لأجدّ وسيلةً مناسبة لأستبداله أو التخلص منه ، فكرتُ
أوّل الأمر أن أحاوره بطريقة هادئة ، لكنّي لم أفلح ، لقد أصرّ على ملاحقتي .
حاول أن يغير صورته ليبدو لي أنّه وديع ، يريد أن يحرسني من الأخطار،لكن سرعان
ما خلع قناع الودّ ليظهر وجه المكر ..بدأ يثير الغبار حولي ،يجرّ ذيل ثوبي، أحياناً
يصدر ضحكات عالية وكأنّها هرير كلب ، أغمض عيني كي لاأراه ، بدا لي شيطاناً يريد
أن يخدعني ، توجست منه غدراً ، لم أحتمل مرافقته ، رحت مهرولاً ، أراه مرّةً
يلهث خلفي دون حراك ، ومرّةً أخرى يسبقني ، توقفت لأستعيد بعض أنفاسي الهاربة من
خوف هذا الوحش الذي يلاحقني دون هوادة ، توقفَ الى جانبي منتشياً بلعبته التي
أنهكت قواي وعقلي ،وما كان منّي وبلا وعي حملت صخرةً كبيرةً ، ألقيتها فوقه ،
عانقها ، أخذ يصارعها ليتخلص من مأزقه الذي لم يتوقعه مني ، تركته يصارع موته
وانطلقت هارباً، التفتّ عدة مرّات لم أجد له أثراً، تنفست الصعداء ، أحسست أنّ
أيامي بدت تبتسم لي ، تغير حالي وكلّ شيء حولي
. كنت سعيداً لأنّي رجلٌ بلا ظلّ، لا أحد يقيد خطواتي ... وهكذا
امتطيت سنتين من الفرح والعيش الهانيء ، حتى أنّي نسيت ظلّي ،لم يعد له وجوداً
في ذاكرتي . وفي ظهيرة يوم قائض
كنت أتنزه على شاطيء النهر ، انتابتني رغبةٌ شديدة للسباحة ، لقد هزّني الحنين
لقرية طفولتي ، وكيف كنّا نسبح بأثوابنا فرحين، تركت ملابسي عند جذع نخلة ،قفزت
إلى النهر غطست حتى لامست أنفاسي رائحةَ الطينِ ،انفجرتْ بداخلي عوالم وصور
جميلة..أكواخ القصب .. البردي رائحة جدتي ...الطيور المهاجرة .. المشحوف* ..
الحنّاء والبخور ...طيبة أهلنا ,و...ضربت بقدمي قاع
النهر ، صعدت الى سطحه لألتقط أنفاسي ، لقد أصابني الهلع حين رأيت ظلّي ممسكاً
بثيابي قرب النخلة ،أصابتني نوبة من الجنون ، لاأدري كيف وصلتُ البيت ، لم أصحُ
إلا على أصوات نحيب ودعاء .. تغيّر كلّ شيء ...الأطفال الذين يمرّون بي ينظرون
خلفي باستغراب وكأنهم يلمحون ظلي المقزز ، الأرصفة ما عادت تطيق خطواتي ،
النهاربدا لي طويلاً على غير عادته ،المسافات ازدادت بعداً لا أرى لها نهاية ،
المسافة بيني وبينه انعدمت ، التصق بي ، هتك أستاري ، هشمّ ماتبقى من عقلي ،أنهك
كلّ قواي حتى صرت كالثوب البالي . وفي أحد الصباحات قررت قتله ، اصطحبته الى
مقبرة المدينة ، وقد أعددت له قبراً قبل أيام ، رأيته على غير عادته ،أصبح عبارة
عن حدبة كبيرة يتدحرج خلفي ، لم يسبقني كعادته ، التزم السير خلفي ،قطعنا مسافة كبيرة
وما إن توارت البيوت عن الأنظار لاحت لنا المقبرة ، أراها فرحة وكأنها تستقبل
موتى .. التفت إليه رأيته في أبشع صورة ، تحول الى وحش فاغراً فمه أراد أن
يلتهمني ، لكنّي أسرعت لأطلاق النار على رأسي لأرديه قتيلاً ، متكوراً عند أطراف
جثتي ، درتُ ظهري له انطلقت لعالمٍ جديدٍ متيقناً أنه لن يرافقني بعد اليوم .
اللوحة للفنانة العراقية عود الأرائك ...
|
الثقافي ثقافي : صحيفة اسبوعية تعني بالشؤون الثقافية .. تصدر من على صفحات المنتدى الثقافي ثقافي . تصدر اسبوعيا صباح كل يوم سبت _ صحيفة الثقافي ثقافي لاتتحمل أية مسؤولية عن المواد المنشورة , ويتحمل الكتاب كامل المسؤولية عن كتاباتهم التي تخالف القوانين أو تنتهك حقوق الملكية أو حقوق الآخرين أو أي طرف آخر . .راسلونا :alaahamied1@hotmail.com __ اتصلوا بنا :0045.91454973 الجمعة والأحد... عطلتنا ..______ كوبناهاكن العدد ( 24 )السنة الأولى / السبت 7 / 6 / 2014
المشاركات الشائعة
-
أنثى القمر لمى الجندي .. سوريا ............... أنا الشمس التي أبت إلا أن تغرب ...
-
قصتان قصيرتان جدا للقاص ابراهيم كمين الخفاجي .... العراق بانتظار الغرق ... هب...
-
صمتك وعيوني نجوى سالمي .. تونس احيانا يغلبي دمعي حين تتحدث تخترقني كلماتك كسهم يجرح ...
-
وداع....خريفي جمانه رواس لبنان .......................... ودّع الرصيف غباره بعد عاصفة رحيلها تركته وحيدا ......
-
ظــــــــــلال ... خالد العزاوي .... العراق ------------------------ فاتك العمر .. ...
-
أمطرت حبّاً سامية خليفة .. لبنان احتبسْتُ الدّمعَ ولكنْ كانَ في...
-
جنون المطر أمينه دياج الشعلان .. المغرب للمطر أجنحة كالعصافير تحوم في ال...
-
البيان الشعري ..... ايمانا مناّ ومن ضمن المنطق الفلسفي والجمالي للشعر ... نعلن هنا بعيد الشعراء...
-
توقيت : سالار معروف ... العراق .......... إبانَ ألعصرِ قبلَ ألمغرب كانَ إلتقانا ...
-
.............. هنـا العـراق ............. عبد الكريم القصاب العراق ( مخاض ) السماءُ مطليّةٌ بالقارِ ، والأبراجُ ال...
الخميس، 6 فبراير 2014
أنا وظلي للقاص العراقي عبد الكريم الساعدي ................
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق