صحيفة الثقافي ثقافي
الإسبوعية ...
صحيفة اسبوعية تعني بالشؤون
الثقافية ...
العدد ( 22 ) السنة
الأولى ..
تنفرد صحيفة الثقافي ثقافي بنشر رواية الطابق الخامس
للشاعر الفلسطيني
مظهر عاصف .....................
مظهر
عاصف .... فلسطين / الاردن
(الطابق
الخامس) ج11
قدمْتُ شاهداً عرَّج في
حديثه على مناهج التاريخ, مادحاً الحكومة على إطعامها عقول الفقراء وقائع الحروب
العالمية دون التطرق لوقائع ناموسةٍ تدعى: اسرائيل , وإشباعهم بدوافع الحملات
الصليبة والفرنسية على أوطاننا دون الذكر بأن تلك البلاد زرعت في خواصرنا سفارات
وقنصليات مستقلة. أو أنها أصبحت حليفتنا وصديقتنا وجارتنا.
معاتبا أياها كيف لم تدمغ على أغلفة المناهج كما دمغت على قلوبنا بسياساتها الحكمةَ الموعظةَ والتي تتلخص في المثل: ( ما من محبة إلّا من بعد عداوة)فها هم مواطنوها يدوسون بلاط مدائننا بلا حدود أوشروط آمنين محلِّقينَ أخلاقهم, بينما العربي يحتاج لجواز سفر خجول وتأشيرة دخول قاسية الملامح إن حاول لَعقَ البلاط لمدينة عربية . كان لا بد من الاستعانة بوالدة (متروك) والتي تحدثت عن تقديمها للمجتمع طبيبا صالحا وتقياً, يشهد الأعداء بحسن أخلاقه قبل الأصدقاء.وبينما استرسلتْ تتحدث عن (متروكها)تذكرت والدتي حينما كانت تطلب من متروك أن يحرصَّ عليّ في الجامعة, وأن يأخذ بيدي نحو الاستقامه مبعداً دربي عن النساء وأن يحثني على الالتزام بالصلاة والأخلاق مثله, متعجبة كيف لشاب خلوق وملتزم أن يصادق طائشا مثلي؟!, ولم تدرٍ أنني تعلمت المشي على حبائل النساء بفضل توجيهاته, وأن أول كأس خمر اغترفته في حياتي قد كان من حوضه. لكنه برع في ارتداء لباس التقوى أمام الجميع وخلعِهِ في أماكنٍ معينة. وقد نفى أن يكون قد ارتاد يوما مخمرةً أو بيت فسوق رغم اقتناع (عفيف بيك ) بهذا الأمر ورفضه القطعي لفكرة تزويج ابنته الوحيدة منه, وأثناء محاولته لإنهاء النقاش طالبَهُ متروك بالتفكير ملياُ في هذا الأمر, ومشاورة ( سيلا) قبل إغلاق باب الحوار.فللزواج شؤون. كاد يجنّ من توسلها إليه بالموافقة على زواجها من (متروك), وذهب يلعن ذلك اليوم الذي حقق فيه مع متروك, واليوم الذي شاهد فيه متروك, واليوم الذي ولد فيه متروك , لكنه بمجرد أن يهدأ من نوبة غضبه يشتم ضاحكاً ذلك الشاب الذي استطاع أن يكون السبب في احالته للتقاعد والاستغناء عن خدماته ومن ثم خطف ابنته الوحيدة....
يتبع
(الطابق الخامس) ج12
قد يكون السبب في أن (سيلا) وقعت بقلب (متروك) بهذه السرعة هو: لباسها المحتشم وملاحة وجهها الذي جمع بين الجمال العربي وجمال دول شرق آسيا عبر دماء والدتها, وقد ينحصر السبب في أن الرجل يحاول بطبعه الحصول على المرأة البعيدة عن تناول توقعاته,أو التي تستنزف الرجل تعباً ومشقة قبل الوصول إليها,وهو ما ينطبق عليها , لكنه كان يقرُّ بأنها مليحة وتأسر قلب كل من يراها, والمليحة من النساء تختلف عن الجميلة, إذ أن الجميلة هي التي تأخذ ببصرك على البعد ، والمليحة هي التي تأخذ بقلبك على القرب . وقال أبو الفرج في الأغاني : قالت : سكينة بنت الحسين يوما لعائشة بنت طلحة : أنا أجمل منك ، وقالت عائشة : بل أنا أجمل منك ، فاختصمتا إلى عمر بن أبي ربيعة ، فقال : لأقضين بينكما ، أما أنت يا سكينة فأملح ، وأما أنت يا عائشة فأجمل ، فقالت سكينة : قضيت والله لي عليها . وقالت امرأة لخالد بن صفوان : ما أجملك يا أبا صفوان ، قال : كيف تقولين ذلك وليس لي عمود الجمال ولا رداؤه ولا برنسه ، أما عموده فالقوام والاعتدال وأنا قصير ، وأما رداؤه فالبياض ولست بأبيض ، وأما برنسه فسواد الشعر وجعودته وأنا أصلع ، ولو قلت ما أملحك لصدقت . وقد تجحف مقاييس الجمال في تصنيف (سندس) والتي بدت كلاعب كرة قدم ينزل في الوقت الضائع ليسجل هدف التعادل لفريقه, ويخلط أوراق المباراة مرة أخرى. ففي الوقت الذي جلس فيه (متروك) بين منطقتي التوبة والخطيئة جالداً نفسه تارة بسياط الفضيلة, ومبرراً لها الرذيلة تارة اخرى , وما بين شعوره بنضوب مشاعره تجاه زوجته رغم اخلاصه لها لسنوات عديدة, وبين ما يقذفه له تاريخه الحافل بالنساء بين الفينة والفينة من ذكريات, قفزت( سندس) فجأة كقطة (تخرمش )أفكاره ومخيلته. وفي اللحظات التي كان يحاول طرد وجهها الطفولي من خياله, وقتل رغبته في جسدها الغض. بدأت بدورها تتغلغل في تفكيره أكثر وتقترب به للسقوط مرة أخرى. شرح لها ذات يوم هذا الصراع الذي يسببه وجودها واعترف أن سبب ارتحاله عن المبنى الرئيسي للمشفى الى المبنى الآخر هو الهروب منها . نظرت إليه طويلا قارئة في عينيه الرغبة وحب استكشاف الآخر, وعندما اقتربت منه وشعرت بحرارة انفاسه تشجعت أن تسأله : هل تكرهني ؟ تثاءبت عزائمه فقال : نعم أكرهك. نظرت إليه بقسوة وقالت : أنا أيضا أكرهك _ إذن نحن في زمن السلم _ هل تحب زوجتك؟ _بالتأكيد _هل هي أجمل مني؟ _ بالتأكيد ابتسمت واقتربت منه أكثر وقبل أن تتحدث قال بسرعه : أنا أكبرك بعشرين عاما , أنت طفلة مراهقة . وقبل أن يكمل حديثه تناولت بحركة مفاجئة وجهه والتهمت شفتيه لتترك في قلبه الرجل الذي ذهب مع الريح . ساعاتان قد انقضتا على وجودها معه , وساعتان قد انقضتا بعدها وهو يبحث عن وجوده الذي ضاع في أرجاء ذلك المكتب. كان يدعو الله أن يجد ( سيلا) نائمة لكي لا ينظر أليها . وفي لحظة تسلله لثقته بنفسه تنفس الصعداء حينما تذكر أن سيلا في ضيافة مزل والدها ليومين, وكأن الرذيلة لا تنسف الأخلاق فقط بل الذاكرة البسيطة أيضاً. قضى وقتا طويلا بالاستحمام , ووقتا أطول وهو يتقلب في الفراش , وكلما نظر لهاتفه الصامت وهو يرمش ضوءاً كل ثانية باسم ( سيلا) كلما زادت غربة نفسه . اقفل الهاتف ونهض يبحث عن شيء لا يشبه أي شئ , عن نهار مختلف يقتل هذا الليل كارها حضور النهار. حاول اشغال نفسه فقرأ بعض المراجع الطبية , ثم فتح التلفاز على اللاشيء, ثم خطر له أن يراسل مريضا في دولة لا توجد على الخريطة . فتح جهاز الحاسوب , انتظر قليلا , أراد اقفاله لكن الشاشة أفشت له سراً غريبا إذ يبدو أن (سيلا) نسيت الخروج من ( شبكة التواصل الاجتماعي) . صفحتها الشخصية كانت باسم مستعار ولكن صندوق الدردشة بدا يعرف اسمها وعمرها ومسكنها, وتحمل مناقير حمامه الزاجل صورا خليعة لها مبعثرة على مراحل مختلفة فهذه صورة برداء سهرة وهذه بلباس بحر دونما بحر, وتلك _ يا الهي_ بلا لباس على الإطلاق. في رسالتها الأخيرة والمرسلة ( ل أمير الظلام ) قالت : استأذنك , مضطرة للذهاب, يبدو أن زوجي الغبي قد حضر. قبلاتي .................
يتبع .
(الطابق الخامس) جزء13
أشارتُ الساعة للرابعة
صباحا ً عندما استيقظت (سيلا)من نومها على رنين هاتفها المتكرر والمتواصل.
قالت بقلق: صباح الخير . لحظة صمت تركت انفاس (متروك)من تتحدث بالنيابة عنه ثم بصوت امتزجَت به الخشونة والهدوء قال: سيلا . سحبت جسدها للخلف, ورفعت ما تساقط من شعرها للوراء قابضةً عليه وقالت : نعم, هل حدث شيء؟ صوت أنفساه بدا أوضح فقَطعهُ بنبرة جافة: سيلا _ نعم. _ هل أنت سيلا ؟ _ متروك , ما بك؟ , أنا سيلا , تَحدث , هل حصل شيء.؟ _ أنت إذن سيلا .؟ مع ارتفاع نبرتها وجلوسها على طرف السرير قلقة قالت : متروك أنا سيلا , سيلا , قل ما خطبك؟ _ لا شيء. أنهى المكالمة وأغلق جوالهِ , وبأقل من دقيقة بدلت ملابسها وقادت السيارة بسرعة جنونية , توالت الأسئلة والأجوبة تباعاً على مخيلتها: جملٌ , وعبارات , لمحات من صورته , أثيرٌ من صوته .... صوت (متروك) يحمل في طياته القسوة هذه المرة .. لماذا اتصل بهذا الوقت ؟ ما مقصده بالتأكد من شخصيتها ؟ .. هنالك خطب , كارثة , تعرفه جيداً فهو زوجها منذ خمسة عشر عاما, والمرأة أقدر الأشخاص على فهم الرجل, وبالأخص إن كان زوجها , فخصوصية الزواج لا تسمح بتعري الأجساد فقط, بل وتتعرى خلالها الأخلاق والطبائع والعادات والنفوس . تدرجت بمعرفته من أروقة المحاكم حتى زواجها به . يمتلك أسارير وجه تشرق إن كان خجولاً وأراد إثبات العكس . ويمتلك صوتا هادئاً وخشناً إن كان في لحظة غضب ,ولا زالت تذكرُ يومَ كانت تعمل كمدرسة للصف الأول وتفاجأت به يجلس بين الطلاب الصغار, ويضع يديه على الطاولة كطفل نجيب , وعلى وقعِ همسات الأطفال وضحكاتهم الخافتة وقفت بوجهٍ لا يفسر متصورة كيفية تسللهِ لغرفة الطلاب, وفرضِ نفسه عليها بهذه الطريقة. قال بجدية مصطنعه: أمي حملتني سلامها واحترامها لك, طالبة منك قبولي بين طلاب الصف الأول كي أصبح ذكيا ونجيباً , وأمحوَ أمية قلبي وجهله, وأتعلم لغة جديدة. استطاع اقناع الأمن والمديرة والجميع بالسماح له أن ينتظرها بغرفة الصف , وذهب يطاردها بعد ذلك في أرجاء المدرسة رغم هروبها منه, وكلما دخلت مكانا تطلب النجدة وجدت من في المكان يطالبها أن تستمع إليه ,وتمنحه فرصة, وفي طريقها للهروب من المدرسة متوعدة أن تشكوَّ الجميع لوالدها كان متروك يسبقها حينا, ويحاذيها حينا, ويتخلف عنها أحيانا أخرى, مردداً نفس الجمل : لماذا انت غاضبة؟ , أنا أريد دقيقة من وقتك فقط , أرجوك دقيقة وبعدها افعلي ما شئت . وفي اللحظة التي أرادت تدوير محرك السيارة والانطلاق مغادرة سحب مفاتيح سيارتها ونظر إليها وقد ارتسم الغضب على وجهه, شعرت ببعض الخوف لكنها قالت : أعطني المفاتيح.(وحاولت خطف المفاتيح من يده) قال : إنصتي لحديثي ثم خذي قلبي لا المفاتيح فقط . _ لا أريد أن استمع , أنا لا أعرفك _ بل تعرفين من أكون _ لا أريد أن أعرفك, أهو بالإجبار؟ _ لا يجوز , الفتاة يجب أن تتعرف على شخصية الرجل الذي سيصبح زوجها. نظرت مستغربة وضحكت لسذاجته: زوجها؟ _ نعم , أنت ستصبحين زوجتي. _ آه, لقد قررتَ إذن .!! _ أنتظر توقيعك على القرار فقط . _ هات المفاتيح ( وحاولت خطف المفاتيح من يديه ) _ وافقي أولاً _ على ماذا؟ _ على الزواج بي,أمي تنتظر موافقتك,أم أنك تريدين أن تبدأ المشاكل بينك وبين حماتك مبكراً؟ _ حماتي؟ _ والدة الزوج تسمى حماة _ أنت مجنون _ بك _ أنت,( وتعثرت خطوات الحروف على لسانها) , أنت غريب . _ مذ دخلت قلبي لا تعلم لماذا أجهشت في البكاء حينها , وما هو السبب الحقيقي وراء تلك الدمعات , ؟ لكن الأمر الوحيد الذي كانت على يقين منه أن هذا الشاب دخل من البوابة العريضة لقلبها, وأقفل خلفه الباب بأقفال محكمة, ولذا سمحت له أن يجلس بجانبها في السيارة ويحدثها عن حياتهما المستقبلية وعن البيت والأولاد وعن طبع حماتها الحاد وطيبتها في آنٍ واحد,وكيفية التعامل معها. كل تلك الأحاديث دارت في هذه السيارة نفسها والتي تقودها الآن بسرعة جنونية, وفي لحظة توقفها وجدت (متروك) يقف بملابس النوم أمام مدخل البيت , أسرعت نحوه بينما كانت تترقرق في عينيه عبرات قهرٍ وحزنٍ لم تقف عيناها على أعتابهما قبل اليوم . وقفت أمامه بينما استطاعت أضواء السيارة فضحَ معالم الحيرة والذهول والارتباك على وجهها, ولمعانَ القسوة في العَبَرات المتساقطة من حدقات ( متروك) . :متروك .. قالتها ونظرت مباشرة الى وجهه . لم يجبها ولكنه حدَّقَ إليها مباشرة كمن يستكشف معالم وجهها لأول مرة . عاودت تهتف به وقد جذبت ذراعيه : متروك , ما الذي حدث, أنت تبكي ؟ قال : لا شيء, لم يحدث شيء. سحب ذراعيهِ متراجعاً للخلف. _ متروك ,أرجوك تحدث ما الذي حدث؟ _ لا شيء _ لا شيء , لا شيء وأرادت أن تكمل صراخها لكن الجوال الذي ضجَّ برنينه المتواصل أجبرها أن ترد على المتصل , قالت متمكنةً من الهدوء : تفضل . ومن ثم كادت أن تُدخِل أذنها لسماعة الهاتف لشدة انصاتها لحديث المتكلم , أنهت المكالمة ونظرت لمتروك الذي لم يطرأ عليه متَغيِّر وقالت : المشفى يتصل بك وهاتفك مغلق, يريدون إخبارك أن أحد المرضى يجلس على حافة نافذة في الطابق الخامس بغية الانتحار. _ يريد الانتحار؟ _ هدد كلَّ من اقترب منه بذلك. عند صعوده للخامس قاصداً ذلك الغريب تذكر فجأة شخصية( البطل الأمريكي) الذي تطلبه الإدارة الأمريكية عند حدوث طارئ وحدثٍ جلل يتعلق بالأمن القومي للبلاد , عندها يهتف أحدهم : لا يوجد من يحلُّ هذه المعضلة سوى ( مارك) ومارك هذا عادة ما يكون مسجوناً في ولاية كذا بجريمةٍ هو بريء منها , وعادة ما تكون زوجة البطل أوعائلته قد تعرضت للقتل بوحشية على يد نفس المجرم الذي ولمصادفة القدر هو سبب المشكلة التي تسببت بإحضاره من السجن. الأمر مختلف هنا قليلا (فمتروك) يمتلك زوجة خائنة ولا يمتلك أطفالا قتلوا إذ أنه عقيم , لكن التشابه بينه وبين البطل في الفيلم الأمريكي يكمن بإصرار المريض على التحدث لمتروك مباشرة قُبيلَ انتحاره , وأعداد الفضوليين الذين حضروا لمشاهدة انتحار الرجل, وعدد سيارات الاسعاف والحرائق وأفراد الشرطة التي انتشرت في كل مكان كإسورة باليد. لعل السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : لماذا كل هذا العدد الهائل من السيارات والأفراد ؟ فالرجل يريد الانتحار فقط , لا تفجير قنبلة . بدا الرجل يجلس بأريحية على حافة النافذة تتدلى قدماه للأسفل متأرجحتين كحال طفل يحرك قدميه في ماء بحيرة ساكنة. حذرهُ أحد أفراد الشرطة قبل السماح له بمحادثة الرجل من أن يقترب كثيراً من الرجل خوفا من ردة فعله. ابتسم الرجل لمتروك وقال : لقد تأخرت كثيراً, لقد كدتُ انتحر قبل وصولك , يبدو أنك لا تحترم الوقت. _ بالعكس احترمه كثيراً , لكنك لم تطلعني سابقاً على الوقت المقرر للانتحار. _ غلبتني . اقترب , اقترب , لماذا تبتعد كلَّ هذه المسافة؟ اقترب اقتربْ. تقدم (متروك)بخطوات سريعة نحوه, حتى كاد يلامس جسد الرجل بكتفه. أزاح الرجل جسده لليمين قليلا ونفض الغبار عن رخامة النافذه مشيرا لمتروك بالجلوس قربه . قال عندما قرأ الارتباك بوجهِ متروك: اجلس, اجلس لا تخف. اعتلى متروك الحافة وجلس بجانبه متشبثا بقائم النافذة , بينما اعتلى صوت(هااا) من ألسنة المشاهدين للحدث......
يتبع
(الطابق الخامس) جزء 14
: عرِّفنِي بنفسك , قالها متروك حالمَا استقر
جالساً على الحافَّة.
قال ضاحكاً ومدَّ يدَه مصافحاً متروك: أحدهم. أُدعى: أحدهم. تشبث متروك أكثر من ذي قبل ومدَّ يديهُ بحذر مصافحاً الرجل, ثم بصوت خانتهُ الشجاعة قال: أقصد اسمك! تأفَّف الرجل ثم كبت غضبه قائلاً : عندما اتصلوا بك بالتأكيد أخبروك أن أحدهم يجلس على شرفة الطابق الخامس بقصد الانتحار , أنا أدعى: (أحدهم ). _ تشرفنا . قالها متروك متظاهرا بالاقتناع, ثم بنبرةٍ صادقة سأله: لماذا تريد الانتحار؟ _هل أنت على قيد الحياة؟ سأل (أحدهم) متروك الحائر. : _ نعم. بالتأكيد. برهن لي ذلك أنا أتنفس _ والفئران تتنفس _ الفئران على قيد الحياة ايضاً إذن تشترك أنت والفئران في التنفس هي نواميس الكون _ هل تخاف القطط؟ _ لا . _ الفئران تشعر بذلك, اذن أنت لا تشترك مع الفئران في خوفها من القطط, لكن الحمير مثلك لا تخاف القطط, قل لي هل الحمير على قيد الحياة؟ _ بالتأكيد _ إذن تشترك مع الحمير بصفتين جوهرتين: الشهيق والزفير وعدم الخوف من القطط. - منطق _ هل تحمل أثقال قوم إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلاّ بشقِّ الأنفس _ كلا _ الحمير تفعل ذلك ساد الصمت قليلا خاصة بعد نداء مكبرات الصوت التي طالبت ( أحدهم) بعدم التهور , استغلِّ (متروك) لحظة الصمت هذه فسأله : هل أنت على قيد الحياة؟, لكن ( أحدهم) أعاد نفس السؤال على (متروك), هل أنت على قيد الحياة؟ _ لماذا لا أكون ؟ _ لأنك ستحيا لتموت _ جميعنا كذلك, نحيا لنموت _ هل أنت مسلم ؟ _ نعم _ هل تؤمن ببوذا ؟ _ قطعاً لا _ هل مات بوذا ؟ _ نعم _ كلا , إنه على قيد الحياة. _ بمنطِقك هذا , لدينا آلاف من الأعلام إذن ما زالوا على قيد الحياة. _ هؤلاء تؤمن بهم , لكن بوذا على قيد الحياة رغم أنفك وأنف من عارضوه. _ بوذا لم ينتحر, لماذا ستخالفه الرأي؟ _ لأنني مثلك . _ هل أنت طبيب ؟ _ أقصد أنني ميتٌ يحيا ليموت. _ هل من حلٍ إذن ؟ _ بالتأكيد, لكن عليك أن ترخي يسراك وتجلس مستريحا مثلي لأخبرك به . رمَشت صُور ( سيلا) (كضوء الكاميرا) أمام عينيه مصاحبةً لغصةٍ في روحهِ, فحرر يسراه وجلس بأريحية مبالغٍ بها أثارت دهشة (أحدهم) نفسه, ثم قال : أخبرني ما الحل ؟ أخذ نفساً عميقاً مبالَغاً بهوائه, ثم وقد وضع يده اليسرى على كتف ( متروك) الذي هبطَ قلبه جرّاء هذه الحركة قال: في السادسة من عمري سَكنت بقربنا عائلة صغيرة: أب, أم , غلام وحيد. ثم كمن تذكرَّ أمراً هاماً : توقع ما كان اسم الغلام؟ _ هل يهمُّ ذكر اسمه؟ _ لا, لكن توقَّع. بعد اصطناعه التفكير قال متروك: عجزت. _عيّاش. _جميل...إذن؟ _ لعبنا الكرة في زقاق الحارة, لكنه لم يلعب معنا. سرقنا البيض من بيت (أم اسماعيل) لكنه لم يسرق معنا. وقفنا كثيرا ننتظر الفتيات الغاديات من مدارسهن لكنه لم ينتظر معنا. _ هل كان مريضا؟ كان وحيداً فقط . والدتهُ لم تسمح له أن يكون طفلاً , حتى أننا كنّا نتعجب كيف كانت تسمح له بالذهاب معنا الى المدرسة؟ أو كيف كانت في بعض الأحيان تسمح له أن يشاهدنا ونحن نلعب من نافذة غرفته. تقصد أنها كانت تبالغ في حرصها عليه. ضحك ( أحدهم) حتى بانت نواجده.استغرق في الضحك دقائقَ ودقائق حتى كاد يخلُّ بتوازنهما سوياً, وبعد أن تمالك نفسه قال: نعم كانت حريصة جداً.وبصوت خشن كمن يقلدها : ممنوع أن يركض لكي لا يقع وبالتالي فقد يحدث له مكروه ويموت, ممنوع أن يتناول الحلوى لكي لا يصاب بالسكري, ممنوع أن يأكل الطعام المالح لكي لا يصاب بالضغط , ممنوع أن يصافح أحدهم كي لا تنتقل الميكروبات له, ممنوع,ممنوع,ممنوع. عاد هنا يتكلم بصوته الطبيعي قائلا: حتى أنها كانت ترفض مجرد التفكير في مستقبله حينما يكبر, وتنهره إن حَلُمَ أن يصبح طيارا, أومهندسا, أوطبيبا, فكل هذه المهن ستودي به للموت حتماً. _ ماذا درس إذن ؟ _ ذهبنا للجامعة بدونه. هل منعتهُ من الذهاب للجامعة. كلا , تَمَنَّت ذلك, لكنه مات. مات؟؟؟؟؟ نعم لقد مات , نام فمات. _ ما هو السبب.؟ _ بلا سبب. مات فقط _ بالتأكيد ماتت والدته كمداً عليه بعدها. _ الجميع توقع ذلك, حتى أنها قذفت بنفسها يوما من الطابق الخامس حزنا عليه وأسفاً علّها تلحق به. _ هكذا توفيت إذن. _ بل لم تصب بأذى, لقد بقيت على قيد الحياة _ لكنني لم أتبين الحل حتى اللحظة _ ولا أنا . قالها واستغرق بالضحك مشيرا بسبابته نحو وجه ( متروك) الذي تمسك مرة أخرى بعامود النافذة محاولا النهوض لكنه تراجع عن القيام بهذه الخطوة تحت تهديد( أحدهم) بقذف نفسه في حالة نهوضه وتركهِ وحيدا. .........................يتبع
(الطابق الخامس) جزء
15
بات يشعرُ بالأسرِ وسيطرةِ (أحدهم) على دقائقهِ, وتذكرَّ أحد السجناء الذي كلّما ودعَه لحظة خروجهِ من السجن قال: الوطن سجنٌ كبير, نحاول أن نقنعَ عقولنا بالحرية فيه لكنه يبقى سجنٌ يفضي بنا إلى سجنٍ صغير فأصغر . وها هو سجين أخرقٍ يحاول الانتحار بلا سبب. صرخ (أحدهم) : وما يدريك بأنني أخرق وأريد الانتحار مجاناً؟. لي أسبابي يا هذا. ارتجفت مشاعرُ متروك قبلَ الرعشة التي استشعرها بجسده فقد قرأَ( أحدهم) أفكارهُ وصوتَ اعماقه بحرفية المشعوذ والساحر. قال أحدهم : لست ساحراً ولا مشعوذا. سأله متروك: تقرأ الأفكار إذن. _ أتوقعها فقط. - لماذا تريد الانتحار, أخبرني ؟
-أنت السبب
_ أنا ؟ _ نعم أنت . -كيف,مَن, لماذا ؟ وضحكَ مجبراً -سأخبرك شريطة أن تعدني بالحفاظ على السر
-أعدك .
-لقد خانتني حبيبتي
_ تزوجت بآخر ؟ سألَ وتمنى لو أن هذه الخيانة وقعت عليه بدلاً منه, وعندما خاف أن يقرأ ( أحدهم) ما يدور بخاطره قطع أفكاره فجأة وتكلم بسرعة : لعلها تزوجت مرغمة؟ . -كلا فهي في الأصل متزوجة من أخره -حبيبتك متزوجة ؟ - نعم . وخانتنتي بعد أعوام طويلة من الحب.لقد طعنتني في الصميم . -تعرفت على آخر؟ كلا, لقد خانتنتي مع زوجها.- ضحك متروك مانحاً الضحكة شيئاً من القهر والغرابة لكنه سأل مستفهماً: وكيف خانتك مع زوجها؟ -لقد حملت منه -لكنه زوجها -وأنا حبيبها -هل أردّتَ أن تضع طفلا منك بالحرام؟ بل أردتُّ أن تترك ذلك الأحمق وتقترن بي.- لعلها لم تحبك بالقدر الكافي.- -وهل هناك أنثى تحب رجلاً كما يستحق؟. هل سمعت يوماً عن مجنونة فلان ؟ أو صريعة فلان؟ . الرجل يحب والمرأة عليها القبول أوالرفض. ودَّ لو كان باستطاعته أن يقول نعم, لكنه أمسك عن الجواب . أخفض ( أحدهم ) صوته لدرجةِ امتزاج الحروف ببعضها عند خروجها من حنجرته قائلا: لقد فضَلت المالَ على قلبي الرقيق - حاول نسيانها من يمتلك قلبا كقلب ابن الملوح لا يداويه سوى الموت.- -لكنه عاش من أجل ليلى -ذليلا مقهورا ضائعا ومجنونا, أمتلكُ قلباً يجبرني أن أعضَّ على الجمر حينما أشاهد طفلهُ ينمو بين احشائها . -عض إذن على الجمر لكن دعك من الانتحار وكيف لي أن اعاقبها والجمر أمره هيّن.- -لكن قيس عضَّ على الجمر وعاش طويلا -لكنه منح زوجها أيضا الخلود, أنا أريد أن أمنحها الخلود وأموت وزوجها . -إذن هي السبب في انتحارك ؟ -بل أنت أنا . لماذا؟ لأنك زوجها.........
يتبع .
مظهر
عاصف .... شاعر من فلسطين
___________________________________
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق