المشاركات الشائعة

الجمعة، 17 يناير 2014

قصة قصيرة سعدي عباس العبد .. العراق __ القمح الأحمر ... __ .............




قصة قصيرة
 سعدي عباس العبد .. العراق 
__ القمح الأحمر ... __

كان الطريق المفضي إلى السوق سالكا يقودني بتؤدة واناة إلى منعطفات متعاقبة . منعطفات مكتظة بالوجوه الاليفة . الامر الذي يضاعف إحساسي بالخوف , من انّ ارى احدهم اقصد المعوزين على الدوام ..فضلا عن احساسي بالخوف من ان اصطدم بنفاذ الطحين من المتاجر , فاظل نهبا لقلق متنامي . وانا اغذ الخطى قلقا , لمحت جارنا لا ادري كيف لمحني برغم من اني كنت اتحاشى ملاقاته .. حالما لمحته يومىء ليّ شعرت برغبة قوّية للبكاء ! , ولما اضحى واقفا على مقربة مني , امعنت النظر في سحنته المكسوه باصفرار مدهش اغواني ان استغرق في مطالعته مليا , كان اصفرار الانيميا الناتج عن العوز والقحط , فساورني القلق وانا اتملى ممعنا ذلك الاصفرار .. القلق من انّ يشكوى جوعه . وهذا كنت جل ما اخشاه .. اخشى ان يطلب نقودا على سبيل الاقتراض او الهبه وانا لا املك غير ثمن الطحين . فوجدتني فجأة اجري بمنأى عنه, اطلق ساقيّ للخوف والعوز والقلق والريح وايام الجوع ! تاركا اياه ينظر مشدوها في اثري , كنت اخشى انّ يكون بحاجة ليّ وانا لا املك غير ان ابقى جائعا كما هو ..قادتني قدماي إلى موقف الحافلة , وقبل انّ استرد انفاسي سمّرني الرعب فلبثت متخشبا لا ابدي حراكا اذ تفاجئت بزميلي الموظف [ الثعلب ] واقفا جنبي وكان هذا الزميل الثعلب كثير الشكوى والاستدانة والسخط . وقبل انّ افيق من ذهولي وجدته يطلب مني ان اقرضه مالا ًلحينٍ من العوزِ . !! فاصابني الذعر وسرعان ما اشحت بوجهي وانا ارتعش من هول الصدمة .. لم يقل شيئا فسرعان ما قاده العوز بعيدا عني ,... ذلك العوز المدهش الذي كان يبدّل ملامحنا باستمرار ..استدرت مضطربا حين رأيت الحافلة قادمة , مكتظة بالزحام , فرأيتني اندس محشورا وسط الزحام , لم يكن في الفضاء الخانق متسعا للجلوس . كانت المقاعد كلّها مشغولة بالمخلوقات الجائعة الرثة ! فمكثت واقفا اتطلّع للوجوه المجفّفة التي بدت ليّ ذاهلة مستغرقة في مجرى من الجوع , تترامق خاملة خاوية في زحام العوز والابدان . كنت مازال احملق في الوجوه لما تناهت لأسماعي صرخة مريعة شتّتت افكاري . كان الزحام على اشده عندما لمحت إمرأة طاعنة بالسنوات والشقاء تطلق صراخا ساخطا ملتاعا يعقبه سيل طويل من الشتائم وهي تطلب من الركاب انّ يمسكوا ب [ النشال ] قبل انّ يفلت من قبضتها المطبقة على اكتافه بكامل قواها الخاوية . فيما كانّ اللص يسعى جاهدا بكامل خوفه وقوّته للوثوب صوب الباب المغلق بجدار من الاكتاف الآدمية . و المرأة ما تنفك تطلق صراخا متصلا ينبض بالذعر والبكاء كما لو إنّها تستغيث من الجوع والفقر . الجوع الماسك باحشائها الخاوية . تصرخ بكل ما اوتيت من قحط وعوز ولكن دون انّ يلتفت اليها احد , كانوا مشغولين . مشغولون تماما باجترار ذكرياتهم التي كانت حافلة بالجمال والطمأنينة والاحلام المضيئة . كانوا ذاهلين عن كلّ ما يحيط بهم وما يحدث حولهم ! .. سمعت السائق يطلق شتائما في الهواء وهو يئن ويزفر ويتأفف ويشكو بنبرة باكية ويكاد يجهش بالبكاء . بل رأيته فعلا يبكي .. يبكي الفقر والجوع والزحام والشجار المستمر في كلّ الاوقات! وشحة [ الخردة ] واختفاء الطحين وتكاثر اللصوص والشحاذين والمعاقين والمرضى والمشردين ... والعطلات وشحة الدواء والمال ..وعطب اشارات المرور والحروب التي لا تمسك عن الاندلاع والبطالة والموت والنزوح وهدم البيوت واختفاء الوقود والنساء والاطفال ونضوب المياه والنور وتفشي الفساد والاوبئة ودور الدعارة والجريمة ... سمعت رجلا كان ماثلا قبالتي ينشج في بكاء مكتوم وهو يشرئب برأسه المؤطّر بكومة من الشعر الابيض النافر , ناحيتي , كان على مشارف الشيخوخة تعلو سحنته تجاعيد طريّة صفر , كان يرى إلى اللص عبر حائط من الاكتاف المدلاة . اللص الذي فر مذعورا دون عناء !!
لما ترجلت من الحافلة التي توقفت على مقربة متاجر الطحين , لمحت من بعيد اكياس الطحين تحتل واجهة احد المتاجر , كان الباعة يصيحون باصوات عالية لتّرويج لبضاعتهم من الطحين المفروش باكياس مريبة على الرصيف ... كنت اخشى الاقتراب منهم , فاغلبهم يخلطون الجص مع الطحين , ! حدث ليّ ذلك اكثر من مرة , فتوجهت إلى احد المحال تاركا باعة الارصفة المشبوهين . توقفت هناك عند المحل , كان البائع يتطلع ناحيتي مرتابا ,طلبت منه انّ يبعيني كيس طحين , لم اقل شيئا آخر لما سمعته يصرخ في وجهي , جفلت في بادىء الامر , واصابني الخوف والدهشة , بيد اني لذت بالصمت حيال غواية الطحين , فلم اعبأ او اكترث لشتائمه التي شملت سائر الوافدين للشراء , كانوا ارهاطا متعاقبة عرجان ولصوص وعميان ومحتالين وعمال بناء , يتدافعون في زحام مريع , اعتراني الخوف لما وقع نظري على مشادة حدثت بين نشالين او لصّين او [ نكَريين ] اختلقوها بغية احداث ارباك لتتسنى لهم فرصة يغتنموا عبرها الوقت المتاح للسرقة .. عرفت او علمت بذلك من مراهقة هي الاخرى [ نشالة ] , فقد لمحتها خلسة وهي تدس اصابع يدها الطويلة في جيب احد الكهول في زحام الطابور الذي شمله لغط واضطراب .. فتنحيتُ جانبا مذعورا بعد انّ رأيت البائع مفروشا جثة غاطسة وسط بركة من الدم الذي جعل يندلق غزيرا ويسيح على الطحين الذي غدا عجينا احمر .. / انتهت ../


سعدي عباس العبد ... قاص من العراق


..............................................

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق