نَفَسُ نارجيلة!
قصة قصيرة
عمر حمش .... غزة / فلسطين
التقطَ
الجمرَةَ بملقط الحديد ، ثمَّ وضعها على الرأسِ .. سحبت بشفتيها المكتنزتين ..
فقرقر الزجاجُ بين ساقيها .. تسلقتها عيناهُ .. قالت: شكرا يا .. ولد!
قالت: لا تنسانا يا ولد .. حين يحررون لكم البلاد ... نفثت الدخان حزمةً طويلةً .. ما لبثت أن تمددت سحابةً هائلة! .. نزل من على شرفةِ القصرِ .. مضى عبر أشجارِ بستان المدام .. انحنى؛ ليلقي نظرته الأخيرة .. كانت المدامُ على جلستها، ترمقُ خطوَه المتباعد! لم يدمْ الأمرُ طويلا .. أياما كانت فحسب .. وصدر البيانُ الأوّلُ .. وقبل أن يتهيأ للعودة .. كانت جموع المخيم - من جديدٍ - تلطمُ حظوظها اللعينة.. ! لم يعُد إلى بستان المدام، لكنّه عَبرَ البلادَ المتاحةَ الجديدة، جاءها زائرا منكسرا، لا سيّدًا فاتحًا ... طريقُ الخليل ليستْ طريقَ يافا، طريقُ الخليل تُوصلُ إلى المنكسرين مثلِهِ، شهد الجبال للمرة الأولى، التقط أنفاسه، والحافلةُ تُصرّ مثل سلحفاةٍ عنيدة .. ترفع مقدمتها .. لتجرّ ما تبقى من جسدِها، سائقو غزة فرسان سهل .. لا فرسان جبل، الخليل تبعتها بيتُ لحمٍ .. أسماء سمع بها من قبل، والقلبُ يدقًّ، الاحتلال جمّع البلاد، وحّدها .. التفَّت الحافلةُ شرقا .. قالوا: جبل المكبّر .. وقالوا .. ممنوعٌ أن نعبرَ القدس الغربيّة .. عقله لم يفهم .. عقله غزته جيوشٌ نملِ، خدرته، صار أسيرا لِما يرى، ولِما يسمع، من غير فهمٍ .. هذه القدسُ .. عرفها من طلعة قبّة الصخرة .. وهجٌ هوى .. شهابٌ حطَّ .. فزِعَ .. قام .. دقّق في قوسِ الذهب .. بكى من غير صوتٍ .. بلا دمع .. بكى كمن قرر الانتحارَ كمدًا .. في القدسِ نزل .. الشارعُ الفاصل محطة الحافلات عن باب العمود .. رآه من قبلُ .. هو رآه .. ولو جاء علماء الكونِ؛ ليقنعوه أنّ ذلك مجرد تخمين؛ لرفض هوسَهم .. هو من قبلُ رأى هذا الشارعِ بتفاصيلِه هذه .. تفاصيل هذه اللحظة بالذات .. رآه من مخيمِ غزةَ ... ومن قبل الهزيمة .. رأى هؤلاء الناس بالذات .. هذا الرصيف .. رأى حتى هذا البائع المتجوّل .. يا .. الله .. أمسك برأسِه .. رآه قنبلة تدقّ ثوانيها .. ضغط بعنفٍ .. ليمنعَ رأسَهُ أن تنفجر .. هؤلاء قومنا .. هؤلاء أحبابنا .. نزل من الحافلة برفقٍ، نزل بدقّة .. رأى باب العمود يناديه .. أعلم .. أعلم .. قال: أعلم .. وتأكّد له أنّ الأمر جديّ .. وأن رؤاه تتحقق .. اشترى كعكةً ولفّة زعتر .. اشترى أيضا بيضة مسلوقة .. دخل باب العمود .. وجد المقهى ذاته .. قال: أرأيتم ! .. ها هو المقهى أيضا!. استلقى على مقعدٍ على الرصيف .. جاءه النادل .. حدّق في الرجلِ، كمن يجد ضالته .. هزّ رأسَه مغمغمًا .. سأله: - ها .. ماذا تطلب يا سيّد؟ - نارجيلة! لم يدرِ كيف قالها، هو لم يدخنها في حياتِه، بل لم يدخن السجائر ذاتها، لكنّه قال: نارجيلة ..! مضى الرجل، وانكفأ هو يأكل، كان يمضغُ، ويرفعُ عينيه، يحدّق في السقوف المعقوفة، في الناس المّارة، رأى أجسادا بملابس عربيّة، يتخللهم آخرون بشعرٍ معقوصٍ على الجانبين، أحسّ بقلبه يقوم، جاء النادل، وضع النارجيلة، زيّن رأسَها بالجمر، ومضى .. مدّ ذراعَه كخبيرٍ، أخذ الأنبوب الطويل، سحب النَّفَسَ عميقا، نفَسَا واحدا، سحبه جوفُهُ ... قرقر الزجاجُ .. لكنّه لم ينفثْهُ .. لم يصنع حزمةَ دخانٍ .. لمْ يُطيِّرْ سحابة .. بلْ سكينٌ ضربَ حلقَهُ .. خنقه .. جحظت عيناهُ .. اهتزّت الناسُ .. تراقصت السقوفُ .. انغلق ضبابٌ، ثم انفتح من بعيدٍ عن وجه مدام القصر، من غزةَ جاءته بقهقهةٍ تحتدّ .. تمتدّ .. تصيرُ عواءً يمتطُّ، ويقولُ: يا .. ولد!
عمر حمش ... قاص من غزة / فلسطين
|
الثقافي ثقافي : صحيفة اسبوعية تعني بالشؤون الثقافية .. تصدر من على صفحات المنتدى الثقافي ثقافي . تصدر اسبوعيا صباح كل يوم سبت _ صحيفة الثقافي ثقافي لاتتحمل أية مسؤولية عن المواد المنشورة , ويتحمل الكتاب كامل المسؤولية عن كتاباتهم التي تخالف القوانين أو تنتهك حقوق الملكية أو حقوق الآخرين أو أي طرف آخر . .راسلونا :alaahamied1@hotmail.com __ اتصلوا بنا :0045.91454973 الجمعة والأحد... عطلتنا ..______ كوبناهاكن العدد ( 24 )السنة الأولى / السبت 7 / 6 / 2014
المشاركات الشائعة
-
قصتان قصيرتان جدا ابراهيم كمين الخفاجي .... العراق نكاح .. ق ق ج ضمخ الخطيبان هدمهما بالمسك والعود استعدادا للمثول أما...
-
"تعبتُ مِنَ الموتِ يا جُثَّتِي" - شعـر: محمد علي الهاني الفوَانِيسُ تَلْهَثُ في أَوَّلِ السَّطْرِ آهٍ... تعب...
-
كحلها الداكن فخري السلفاني العراق أيقظت وحي الشعر من سباته واجتثت من جوفي الكلمات جعلتها ترقص على صهوة ل...
-
الشيء الجميل وضاح صبوح سوريا هو الشيء الذي لم يسقط بعد من فضاء المخيلة -1- تخيل أن تمتطي حصانا .....
-
أراجع حساباتي عود الارائك ... العراق فترتجف ألكلمات . يسقط كوكبا كان بريا ...
-
كاملة سوالف عتيجة عادل وطن .. العراق صويحب چان رجال فقير من اهل الله ، وعنده مرة أس...
-
رَن قلبي منى البكر فلسطين ... هاتفي رنّ منذ ساعاتٍ أقصدُ منذ سنوات لم ينزعج منکْ ب همس .. سبحان من يُغير الاحوال مابين ...
-
قطاف القبل سنية السعدي تونس أسراب القطا تسامرني تفتح أزار القميص زرا زرا متأملة جراح صدري العاري تصطبغ أجن...
-
قدها سيف على أعمدة العهــــد ==================== شعـــر : محمد العصـــــــــــــامي ==================== استهلال كلما تهت ...
-
اخر الليل بهية مولاي سعيد مطر يخدش حياء النوافذ يبللها برضابه الشفاف حملته غيمة تائهة عن س...
الجمعة، 6 يونيو 2014
نَفَسُ نارجيلة ! / قصة قصيرة / عمر حمش .... غزة / فلسطين .........
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق