المشاركات الشائعة

الجمعة، 14 مارس 2014

((القضبان والبحث عن مكان آخر)) ( قصة قصيرة) / عبد الكريم الساعدي .. العراق ............
















القضبان والبحث عن مكان آخر) ) ( قصة قصيرة)


عبدالكريم الساعدي.... العراق





حينما حاصرته الأمطار من جميع الجهات خلع نعليه ، ترك كل ما في البيت لغضب الأمطار ، حتى كتبه وأوراقه...لم يكن أمامه إلا أن يحتمي بسطح الدار ،أصبح بيته سجنأً ، المحلة.. الوطن على سعته وامتداده ،عبارة عن قضبان وصبّات كونكريتية،بدأت تزحف من جميع الجهات، حتى تراءى له أنّ الوطن بضعة أمتار مربعة لاملامح له ، كائن غريب قاسي، لايعرف غير التقلص...ولما امتد بصري الى ما خلف اسوارالسطح أصابني الفزع، أشباح من الأشجار اليابسة ، قبورغادرت موتاها،صمت ووحشة تغلف المدى،وما كان مني إلا أن أغطي وجهي بالصراخ والرعب حتى ارتجّ كل كياني بالبكاء..وما كان منه إلا أن يشاركني خوفي ورعبي وراح يبكي مثل إمرأة ثكلى.. نصبتُ العزاءعلى روحي وروحه حتى انقضاء فصل الرعب . الصبّات الكونكريتيه، القضبان بدأت تتكاثر ، أحسست بالأختناق،أصبح الوطن ضيفاً ثقيلاً، يحاصرني بأسواره وصمته،تفجرت بي رغبة للهروب من أمتاري المربعة، ولما لم أجد مكاناً بين تلك القبور غير استفزاز الأشجار المتيبسة بالرحيل قضيت ليلتي الأولى أنا وهوصامتين يمزقنا صوت الفراغ وأنين البرد،لم أنم تلك الليلة خوفاً من حمرة تلك العيون المبحْلِقة بكياني، هو تكوّر حول صبّاته وغفى، تركني وحدي أواجه هول وحشة ليلتي الأولى ،حاولت أن أخدع أرقي الذي لازمني تلك الليلة بأغماض عيني ، تراءت لي أشباح من نساء وأطفال تغرق وسط موج بحر هائج،لكني غير قادر على تمييز تلك الأشباح، فعاودت النظر مرة أخرى في تلك العيون الحمراء مرغماً،وجدتها مثل غانية هدّها السهر والرقص، لم تعد ترعبني هذه المرة ، لأني أشفقت عليها،حين رأيتها تترنح بين محجريها سكرى...ولما اكتويت بحرقة البرد والأختناق، قمت لأنزل الى فناء الدار لعلي أحتمي بشيء ما ،لكن القضبان وأسوار الصبّات منعتني من ذلك : - ممنوع أن تغادر مكانك . -إنّه بيتي، لاأحد يمنعني من المكوث فيه . - لايحقّ لك ذلك إلا بعد إنتهاء العزاء . - لكني لاأستطيع قضاء أيام أو شهور وربما أكثر من ذلك ، البرد يقتلني. - هذه مشكلتك وحدك ، تدبّر أمرك . ثكلتني تلك الليلة بطولها،جعلتني أبحث عن شريك يقاسمني وحدتي ،لم يكن أمامي في اللية الثانية إلا أن أبحث عن ذلك المتكوّر على أنقاضة لعلي أجد ضالتي عنده.بحثت عنه بين الأسوار وجدته يتماوج بين رعشة البرد وبين موجة من السعال.ذائباً في غربة الزمان والمكان، جفّت عروقه، يلسعه النسيان، مشرفاً على الرحيل، لاأعرف لم حملت همه ،ربما في موته إعلان لموتي، لقد ظلمته كثيراً حينما جافيته تلك الليلة.بدأت أشعر بالذنب،رحت أحاوره لأخفف من عذابه ، قلت له معاتباً : -أنت شيخ كبير،وطيب، وقد كنت حانياً علينا بحبك ، لم هجرتنا تلك السنين ، وأنكرتنا ؟. أستوى على ألمه وأجابني بنبرة توحي بالأنزعاج من جرأتي : لم أنكر أبنائي يوماً ما ، أنا أحيا بوجودكم ، ولكنكم انكرتموني حينما تلقفتني العواصف... -سيدي، أنا لم أقصد إزعاجك، وأنت تعلم مدى حبنا لك ، ولكن لِمَ تخنقنا بالجوع والحرمان ؟ - أراك لم تنتبه لتلك القضبان، عجيب أمركم كلّ شيء تلقونه على غيركم... أخذته نوبة من السعال الشديد مصحوبة بقطرات دم،وبين الفينة والأخرى أراه يبصق في وجه القضبان ،ويلفظ أشياءاً كريهة لاأعرف كنهها..تحدثت معه بصوت عالٍ أردته أن يكمل حديثه ، لكن صوت القضبان جاء مستنكراً : -لايحقّ لكم الكلام،الكلام موت، أتريدون الموت؟.فقدت كل توازني،لأصبح كتلة من الغضب، ورحت أصيح في وجهه مستنكراً : -ألم ترَ حاله لقد أصبح مثل زهرة ذابلة ، دعني أمر كي أستدعي طبيباً له .ركلني بحقد كلماته : - ألم أقل لك، ممنوع أن تغادرا المكان إلا بعد إنتهاء العزاء ؟، هذه أوامر وما عليّ إلا تنفيذها..ألم تفهم كلامي بعد ؟ لقد نفذ صبري، عواء الذئاب، هتاف الموتى من خلف الأسوار، أنين شيخي المتربص به الموت، هل أستسلم لقدري ؟ لابدّ من فعل شيئ ما ،اليأس يعني الموت، وأنا لاأريد أن أموت في هذه الدائرة الضيقة... أقتربت منه بهدوءٍ شديد ورحت أهمس في أذنه : -سيدي ألا ساعدتني بحفر نفق تحت هذه الصبّات، لعلّنا نهرب إلى مكان آخر. - ألا ترى حالي ؟ أنا أبارك عملك هذا. قضيت ليلتين وأنا أحفر بصمت في غفلة من العيون المتربصة بنا،ولمّا أشرفت على الأنتهاء شعرت بلذة الأنتصارلأول مرة في حياتي. -سيدي العزيز ،عند الفجر سنغادر المكان،أريدك أن تستجمع كل قواك،لاأمل لنا إلا بالهروب.أجابني بكل ما يملك من عطف وحنان : - بني انجُ بنفسك، واتركني ،لافائدة من هروبي . - كيف يتسنى لي أن أترك روحي ووجودي، يشهد الله عليّ ما حفرت هذا النفق إلا من أجلك.وعند الفجر رأيته مستيقضاً ،تعذر عن الرحيل، ولكني أجبرته على الأمر، حملته على ظهري وانطلقت بهمّة الحياة، وما إن وصلنا سلّم الدار،أصابني الذهول من غرق البيت،المياه قضبان أخرى،صبات مرعبة ، لقد خيم اليأس عليّ، كيف النجاة من الغرق وأنا لاأجيد السباحة!؟ لقد انتهى أمرنا ، وجاءصوت شيخي ليقطع حيرتي : -لاعليك، يبدو إنك لم تعرفني جيداً،سأحملك هذه المرة .حملني على ظهره يصارع الغرق،كنّا واحداً إمّا أن نموت معاً أو نحيا.. أطلق عنفوانه مخلفاً وراءه التعب ، ليصبح باب الدار أملاً للنجاة.. تركت أجسادنا الغرق وعواء القضبان وأنين الموتى،ولما لم نر أحداً،الكل غادر، البيوت مهجورة إلا من صوت الريح المخيفة ، قال لي: - أهم ما في الحياة، إنّك إذا انهزمت عليك أن تفكر بالأنتصار مرة أخرى . شدّ على يدي بقوة..واصلنا المسير معاً، نبحث عن مكان آخر ، عن حياة أخرى .........


________________________________________




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق