المشاركات الشائعة

الجمعة، 24 يناير 2014

نعــيـمـه / عيسى عبد الملك ...... العراق .............



نعــيـمـه
عيسى عبد الملك ...... العراق

قرأتْ أسمي، تأملته طويلاً، ثم برفق وضعت خطاً تحته و .. قابلتني وجهاً لوجه.. بضع سنتمترات تفصلها عني.. تهدل شعرها على الجانبين، بحركة، لا إرادية، إزاحته عن خديها الورديين!.
-
دعيه! انطلقت مني لا إرادية أيضاً.. جفلت، تراجعت، حدّقت في عينيّ مستَفزَّة.
-
عفواً، لا إرادية كانت، تلك مشكلتي مع هذا اللسان. ابتسمت قليلاً ثم قالت: امسكه!
عدلت جهاز الفحص، وتصنعت العبوس وهي تفحص ضغط العين.
-
ضع حنكك هنا، هكذا، حدق في العدسة، لا تحرك رأسك.. وحدقت في العدسة.. على الجانب الآخر، كانت عينها، خضراء، فاتحة الاخضرار براقة. ((أنظر إلى هذه الزاوية)) ونظرت، لكني سرعان ما اتخذت عيني وضعها الأول.. اقتربت أكثر، عدلت من جلستها، أحسست بحرارة أنفاسها، رفعت رأسها.. كنت لا أزال أضع حنكي على مسند جهاز الفحص.
-
انتهينا؟ ماذا بعد؟
-
العين الثانية.
ولكنكَ قلتَ واحدة.
نعم ولكن لأطمئن. وتقابلت عينانا من جديد.. كنت أُمعنُ النظر في عينها.. وددت لو أننا نبقى هكذا متقابلين... رفعت رأسها وفجأة سألتني.
-
هل اقدر أنْ أسألك؟.
-
نعم تقدرين.
-
هو غريب تقريباً سؤالي ولكنه يلح عليَّ.
-
اسألي.. ورحت أحدق في عينيها، أتأملهما أكثر، كأني اغترف من نهر بارد بعد عطش شديد.
-
لو قلت لك، أنك ستفقد البصر، ما آخر شيء تحب أن تراه؟.
زلزلني السؤال، دوار غريب لفني، دهشة سدت علي منافذ الرؤيا، صرخة كادت أن تفلت مني.. بلحظة تصورت نفسي أعمى لا أرى شيئاً، حتى باب غرفة العيادة!.. لكن صوتها جاءني.. ناعما، رقيقاً كهمسة. – هو غريب سؤالي، ولكنك لم تجبني.. وبدون تدبر قلت:
-
وجهك، وبالذات عينيك.
-
وهذه، هل انطلقت لا إرادية أيضاً؟. قالت مستغربة.
-
لا، هذه بكامل أرادتي ووعيي وعقلي الباطن.
-
ولماذا عيناي بالذات؟.
-
لأنهما تذكراني بعينيها.
-
تذكرك؟. هل معناه أن الحدث بعيد.
-
بعيد جداً، حتى خلت أن الذاكرة قد نسته.
نظرت إليّ مليّا، ظل ابتسامة خفيفة ارتسم على شفتيها وكتبت: يراجع بعد أسبوع! وناولتني الورقة..
كنت آخر من دخل. ((هي أرادت ذلك)) قال لي منسق أعمالها.
-
تفضل، اجلس، لا هنا، قابلني، وقابلتها.
-
حدثني عنها.
-
عيني؟
-
لا، حدثني عن التي ذكرتك بها! فاجأني سؤالها، فصَمتُّ. لم سألتني، وأي جرح أيقظت؟
-
هل غريب سؤالي، أنه عفوي أيضاً، مجرد حب استطلاع ولكني أصّر هيا وليكن طلبا أو رجاء. أذعنت ورحتُ.. أقول... حدث ذلك منذ زمن بعيد جداً. حينما فاجأتني، لا أدري من أين برزت، جميلة كانت، رشيقة، بيضاء بشعر ذهبي، تنط من زهرة إلى أخرى وهي تدندن.. جفلتْ، إذ فاجأتها أنا الآخر، حينما صر حديد السلسلة على الأرض.. رفعت رأسها.. بحزن مازلت أذكر ملامحه، نظرت ثم حيتني فرددت التحية، كانت عيناها خضراوان بلون فاتح.
-
من أين جئتِ؟ وماذا تفعلين.. بيدها أزاحت شلال الشعر المتهدل على الجانبين وقالت – أجمع الياس وبعض الورود، غداً خضر الياس وأضافت، أنا أعمل هنا ثم ابتسمت وانسحبت، لكنها حيتني قبل المغادرة.
-
أيأملُ من لم يذكره ذاكر أن تذكريه! قلت لها فابتسمت.
في اليوم التالي وقفت على الباب باسمة، حيتني، ناولت الشرطي بعض الفواكه والحلويات وهي تقول
هدية لمن لم يذكره ذاكر.
-
ستسجنين معه إن ترددت عليه.
-
أتمنى ذلك
-
ستفقدين وظيفتك في المستشفى.
-
حتى لو فعلوا.
-
أمجنونة أنت، لاحظي أنه مقيد ليل نهار:
-
هذه قسوة، خفف عنه، أليس عندك قلب، أليس عندك أولاد، انظر أكل القيد معصمه، ثم لماذا تربطه إلى السرير. تقول للشرطي الذي كانت لعبته تقييدي إلى السرير وسماع رنين الأصفاد على الأرضية. كان هذا جدالها اليومي، ثم راحت ترشيه كل يوم، الآن صار يبتعد قليلاً.كل صباح،تقف بباب الغرفة تدخل ضوءً دافئا انتظره بصبر،تناول الشرطي إفطاره فيبتعد ،يترك الباب مفتوحا تدخل باسمة، شعاع إشراقها يتسلل إلى شرايين القلب . تناولني إفطاري وتخلع عباءتها، ترتبها، ترفع وسادتي وتضع العباءة تحتها. تجلس جنبي حمامة وديعة تقشر لي بيضة،برتقالة،تناولني إصبع موز. من ترمس أنيق تصب لي شايا مهيلا. بعد انتهائي تناولني منديلا ورقيا.. تلبس رداءها الأبيض وبأصابع رقيقة تودعني. تتعلق عيناي بتلك الأصابع الرقيقة المصبوغة أطرافها. عند الظهر انتظر انفراِج الباب. اقلق إن تأخرت .أكثر من مرة عاتبتها.ضحكت كثيرا عندما عنفتها ،لا تجبرني على إعطائك مخدرا،قالت.تخلع صدرية العمل ،تستل عباءتها ،تودعني .بعدها تطول ساعات النهار وفي الليل استحضر كل كلمة قالتها... ذات يوم افتقدتها.. قلقت ثم خفت. إذ لم تعد تزورني. هكذا كما ظهرت فجأة اختفت وكدت أجن فقد كانت نافذتي على الحياة.
-
لن تراها، جاء صوت الشرطي كحشرجة وهو يحاول إرخاء السلسلة الحديدية التي ألتفت حول عنقه.
حدث ذلك منذ سنين يا ابنتي.
-
وإذن أنت هو! قالتها بحزن حرَّك كل ساكن فيّ.
-
ماذا وإذن أنت هو؟
رفعت رأسها، تأملتني، وقالت أنا أكمل القصة!

-
صمت دون وعي، نعم كان هذا أسمها.
برفق وحزن ودموع، أخرجت محفظة صغيرة، مما يعمله السجناء، بخرز النمنم كان أسمها مطرزاً ((نعيمه)).. كانت تلك هديتي لها..
-
هذا ما تركته، حين اقتادوها، قالت الطبيبة وهي تنشج.. وجمتُ، تأملت المحفظة. أردت أن اصرخ. دمع غزير غطى عيوني وبعدها لم أعد أر شيئاً. حتى باب العيادة!.

عيسى عبد الملك ...... العراق


.....................................

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق