في القضية الوطنية
علي عباس خفيف ... العراق
تثير القضية الوطنية في الوقت الراهن
الكثير من التساؤلات ، خصوصاً بعد تحكم العولمة بأهم مفردات الحياة ومتطلبات
الانسان المعاصر . والوطنية كمفهوم سبق أن تناولها المفكرون بالدراسة المستفيضة
والبحث انطلاقاً من تأريخ تكون الأمم ، شعوباً واوطاناً . ولكن: ( هل يتلخص كنه
القضية في التعاريف القانونية ، أم في تجارب الحركات الوطنية في العالم باسره ؟)
باستعارتنا لهذا السؤال يفترض بنا أن نسأل أيضاً عن حضور مفهوم ( الوطنية ) في
التجربة الانسانية برمتها . ومنه فإننا نؤكد ، كحقيقة تاريخية ، أن عصر صعود
وانتصار الرأسمالية الحاسم على الاقطاع - نمط انتاج وتشكيلة اقتصادية اجتماعية –
كان قد اقترن بصورة واضحة ونهائية بالحركات القومية والوطنية . لأن ذلك الانتصار
الرأسمالي تطلب استيلاء البرجوازية على الاسواق الداخلية وتنظيمها بما يصب في
منافع هذه الطبقة ويحقق لها الربح ، حيث أدى في النتيجة إلى ضم الأراضي التي
يتكلم سكانها لغة مشتركة إلى بعضها وتوحيدها لتكوين كيان سياسي واحد ، ومن ثم رسم
حدودها بدقة.
ما الأمّة؟
الأمّة في اللغة :
جاء
في (المنجد في الاعلام واللغة ) أن :
الأمّة : جمعها أُمم . وهي : الجماعة /
الجيل من الناس / الوطن ..
وورد في لسان العرب عن الأمّة :
أمّة الرجل قومه . والأمّة الجماعة . والأمّة
: القرن من الناس . والأمّة الجيل والجنس من كل حي ... الخ
الأمّة هي قبل كل شيء جماعة: جماعة معينة من
الناس. وليست هذه الجماعة عرقية ولا قبلية. فقد تشكلت الأمة الإيطالية الحالية
من الرومان والجرمن واليونان والأتروسك والعرب الخ... وتشكلت الأمة الفرنسية من
الغاليين والرومان والبرتون والجرمن
الخ.. ومثل هذا يقال عن الانكليز والألمان وسواهم، الذين تألفوا كلهم أمماً، من
أناس ينتسبون إلى عروق وقبائل مختلفة. أي تكونت شعوباً واوطاناً .
وهكذا فالأمة ليست جماعة عرقية أو قبلية، بل
هي جماعة من الناس تآلفت بعوامل التاريخ. وهي ليست خليطاً عارضا وواهياً ، بل هي
جماعة ثابتة من الناس ، ومنه ليست دولتا الاسكندر وكسرى أمماً ، لأنها خليط من
الأعراق ينتمون إلى هذا وذاك حسب فشل ونجاح هذا أو ذاك في الحروب ، أي جماعة غير
ثابتة.
المعايير
المكونة للأمة :
1- اللغة :
لايمكن
تصور وحدة بين ابناء بلد أو أمة أو وطن من دون لغة مشتركة يجري بواسطتها التفاهم
وحل مشكلات البيع والشراء والاجراءات العملية لتمشية أمور الحياة بكاملها . علماً
أن هذه اللغة المشتركة ليست اجبارية . كذلك لايمنع هذا الوضع وجود لغات أخرى في
البلد او الأمة أو الوطن يجري من خلالها التفاهم بين أبناء هذا البلد. فاللغة
المشتركة هي أحدى خصائص الأمم والأوطان ، مع وجود لغات خاصة أخرى.
2- الأرض
المشتركة:
إلى جانب
اللغة لابد لأبناء أية أمة من وجود أرض مشتركة يعيشون عليها لكي يمكن أن يكوّنوا
أمة وشعب . فالبريطانيون والامريكان يتكلمون لغة واحدة لكنهم لايشكلون أمة لأنهم
لا يقيمون على أرضٍ مشتركة وانما في اراضٍ متباعدة . وهكذا فاختلاف الأرض مع
وحدة اللغة يتشكل منها أمم مختلفة أو بلدان مختلفة أو أوطان مختلفة . فالأرض
المشتركة هي احدى خصائص الأمم والأوطان .
3- الوضع
الاقتصادي المشترك :
لابد في تكوين
الأمم أو الأوطان من وجود حياة اقتصادية مشتركة . حياة اقتصادية تجمع اجزاء
ومرافق الحياة المعيشية لمجموع السكان في كل واحد . حيث تقوم هذه الحياة
الاقتصادية اصلاً على تقسيم العمل، وعلى تنوّع مرافق الانتاج الاقتصادي ، بما يؤمّن
الوحدة الاقتصادية ويصنع مستوىً ما من الاكتفاء لمجموع الناس في البلد أو الأمة
. ومنه فإن العزلة الاقتصادية تمنع تشكيل الأمّة ، حتى لو كانت هناك لغة مشتركة
وارض مشتركة .
4- التكوين النفسي والثقافة المشتركة :
على طول
العصور ، كانت لجماعات الناس المندمجين في أمة تكويناً نفسياً يمكن رصده في
الثقافة التي تصدرعن هذه الجماعة . وميادين الثقافة المعنية يمكن تلخيصها في :
الأمثال التي يطلقها الناس على حياتهم، والحِِكِم التي تؤخذ كعبرة أو خلاصة لتجربة
جماعة الناس ، والشعر الذي يشعل حماس الناس ويكشف عن عواطفهم وانفعالاتهم بما
يخدم لحمة هذه الجماعة ووئامها ، والكتابات المتخصصة في العلوم والحياة
الاجتماعية والسياسية والفلسفية ، والأعراف المنظمة للحياة التي يسنها الناس
فيما بينهم لتنظيم ما يمكن من حياتهم وسبل معيشتهم واتفاقهم وائتلافهم وكل ما
يطرأ من تغيير على حياتهم ، والقوانين التي تصدرها النخب المنظمة لحياة جماعات
الناس . إذن ، فالتكوين النفسي يجري رصده في كل ذاك ( في ثقافة جماعات الناس) وهو
خصيصة مهمة لايمكن اغفالها في تكوين الأمم أو البلدان أو الأوطان .
من كل ذلك ؛
فان الأمة (هي جماعة ثابتة من الناس مؤلفة تأريخياً ، لها لغة مشتركة ، وأرض
مشتركة ، وحياة اقتصادية مشتركة ، وتكوين نفسي مشترك يجد تعبيراً له في الثقافة
المشتركة .)
وحين يقرن
الأفراد وجودهم بالأمة ، أو الدولة الوطنية ، فأنهم يقرّون بوضعهم الشرعي كأعضاء
في مجموعة حضارية ، أي في كيان حضاري . وسيكون الشعور المرتبط بهذا الشكل من
الانتماء هو حب الوطن أو الأمة ووعي تقاليدها .
والأمة لأنها
حادث يحصل في التاريخ ، لابد من أن تخضع لقانون التغيّر كغيرها من حوادث التاريخ
الأخرى . فهي لها بداية ولها نهاية أيضاً . كذلك يجب الانتباه إلى أن أية خصيصة
من الخصائص الأربعة لوحدها لاتكوّن أمة ولا مواطنة. كذلك أن فقدان أية خصيصة من
هذه الخصائص تمنع تكون الأمة .
وحسب تأكيد
الكثير من المفكرين المعاصرين مثل هابرماس وريموند كاري وفوكو وأومين وغيرهم
، فأن الأمة لايمكن أن تتحقق من دون
دولة . فالأمة تتضمن فكرة الاجتماع السياسي ، فكرة المجتمع السياسي ، أي الدولة
، أي أن الأمة تفترض وجود دولة . تفترض العيش والانتظام في شكل سياسي مناسب أي
دولة . حيث يعمل الهدف السياسي في تقوية الهوية الجماعية ، وتنمية الشعور
بالتضامن في وعي الشعب ، وربما برمزية ثقافية .
وبصرف
النظر عن اعتبارات التمييز بين الشعب والأمة* في الفكر الحديث ، الذي يَعتبر
أن العامل السياسي الجماعي فيصلاً في تعريف الشعب اوالأمة ، كما في توضيح (
المفكر ميشال فوكو) عن تحول الشعب إلى أمة بسبب الثورة حيث أشار إلى - أن الثورة
تقوم بشيء مجيد . فحين يقوم الشعب بالثورة يتحول إلى أمة لأنه يقوم بكل اعباء
الدولة حينها- قلنا بصرف النظر عن كل ذلك ، يبقى فهم الوطنية قائماً على مشاركة
الجميع من دون أي استثناء في الانتماء الكامل للأمة أو البلد أو الوطن في العصر
الراهن وفقاً لمحددات الوجود الانساني ضمن جماعة ثابتة .
ويعمل الهدف
السياسي ( أي قبول الانتماء لدولة أو المشاركة في الثورة .. وغيره.. وغيره.. )
على تقوية الهوية الجماعية ( أي شعور الانتماء إلى جماعة حضارية ) ، ويعمل على
تنمية مشاعر التضامن في وعي أبناء الشعب ، وبسبب ذلك قد يجد ابناءالشعب رموزاً
ثقافية للتعبير عن هذه المشاعر . كأن يبتكرون احتفالات لمناسبات معينة ، أوإقامة
مهرجانات ، وإشاعة الامثال والحكمة ، أوتكريم الشخصيات الحيوية واحترامها
والتشبه بها في حياتها ومواقفها ومأ إلى ذلك من وسائل .
المواطنية**
والوطنية :
في أوربا ، منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة ، وُضعت قوانين
للمواطنية بشكل مبكر، فقد قامت عام 700 قبل الميلاد اربعة قرى بالتآلف فيما بينها
لتأسيس ( مدينة – دولة polis
)، اطلق عليها اسم سبارطة . ولتأكيد انتماء الناس إلى هذه المدينة كان
لابد من أيجاد جملة من الشروط . ولقد وضع ( ليكورغوس) دستوراً للمواطنية
الاسبارطية يقوم على اساس ملكية الأرض التي كانت تُزرع بواسطة العبيد المملوكين
. ولقد تأسست سبارطة كدولة عسكرية ( او كيان عسكري ) قامت بالعدوان على جاراتها
وضمتها بالقوة . وسنّت قانوناً قاسياً للتربية لأبنائها يقوم على العلم العسكري
والتربية البدنية ، استعداداً لشن الحروب والدفاع عن أملاكها ، وفرضت على
ابنائها تناول وجبات الطعام بموائد جماعية . لايجاد نوع من الألفة بين السكان .
مثل هذا حصل
في أثينا أيضاً ، لكن الفرق أن دولة أثينا بمفكريها وفلاسفتها سنّت القوانين الخاصة
بالمواطنية من أجل الوئام الاجتماعي المدني وتنمية قدرات المجتمع . بينما كانت
قوانين اسبارطة من أجل حياة عسكرية . ولقد بُنيت تلك المواطنية على أساس ملكية
الأرض والعبيد وعمل الاحرار ، فالمواطنية تشمل مُلاّك الأرض وبعض الاحرار ، فيما
جرى استثناء العبيد والأحرار الغرباء من تلك المواطنية بصرف النظر عن مدة اقامتهم
أو درجة ولائهم .
ومع أننا
نجد في روما ، في فترات لاحقة ، دعوات متنوعة لشكل من المواطنية تشرك حتى
الغرباء إلاّ أن المعيار النهائي للمواطنية بقي ملكية الأرض والعبيد وعمل
الاحرار كما هو عند شيشرون . لكن المواطنية بقيت بعيدة عن التعصب القومي والعرقي
. ولقد اكد المفكر يورغن هابرماس على طبيعة المواطنية اللاقومية ، فقد كتب ان المواطنية
( لم تكن قط مرتبطة في مفهومها بالهوية القومية ). ونجد أيضاً فكرة متقدمة على
(شيشرون) عند الفيلسوف (سينكا) فقد دعى
(سينيكا ) إلى نوع من المواطنية الكونية مع اعتقاده السائد أن الحق دائماً مع
روما .
ولم يتطور أويحصل التغيير في مفهوم المواطنية
وتنظيم حقوق الجماعات من دون نضال ، فقد ناضل فقراء المدينة ، وبسطاء الناس ،
ممن كانوا يدعون ( الرعاع والسوقة ) في سبيل الحصول على حقوق ضد اصحاب
الامتيازات من النبلاء ولقد حصلوا عليها وتأسست وفقاً لها افكار جديدة عن
المواطنية دعى إليها مفكرو تلك العصور.
لقد تطور
مفهوم المواطنية عبر التاريخ ، واستطاع الناس بنضالهم الدائب أن يحصلوا على
امتيازات هي بالنتيجة الاقرار بجملة من الحقوق التي تنظمها الدولة لصالحهم .
وفي العصور المتأخرة كادت المواطنية أن تصبح مرادفة
للوطنية ، وهو تطور مهم قائم على تقدّم حقوق المواطنين في العرف ومن ثم في
الأنظمة والقوانين . ولقد دافع روسو عن شكل جنيني للوطنية في كتاباته (من حيث
الولاء والالتزام للدولة مهما كانت مكوناتها الاثنية والثقافية مختلفة ومتنوعة )
. كذلك أكد تي كَيْ أومين على ضرورة تاكيد حقوق المواطن في تطور مفهوم الوطنية
بصورة تؤكد تميّزها ، فكتب : ( لا يستطيع أي مواطن أن يتصور دولته شأناً يتعلق
به سياسياً أو أن يجعل منها قضيته ، إلاّ إذا آمن بوجود إطار وطني يندمج فيه
الأفراد الذين يشكلون سكان هذه الدولة ... وإلاّ إذا كان اخوانه المواطنون
يماثلون بعضهم بعضاً ويماثلونه هو نفسه في نواح معينة .)
الوطنية
والديمقراطية :
لن تجد في
الفكر السياسي مفهومين أشد التصاقاً بعضهما ببعض من الوطنية والديمقراطية .
فضلاً عن أن الوطنية لم يكن لها أن تجد
تعريفها الحقيقي في الفكر السياسي من دون الديمقراطية ، ومنه فأن الديمقراطية هي
التي عبدت الطريق لحضور الوطنية في المفاهيم السياسية وفي الحياة الواقعية على
حد سواء.
وليس ثمة حل أو
تعزيز للقضية الوطنية من حل واحد وهو ؛ تعزيز الديمقراطية الحقيقية ، أو تحقيقها
والنضال في سبيلها بصدق ودأب إلى النهاية والدفاع عنها بقوة وبلا تردد . إن
الحدود الدنيا لوطنية الناس هي القبول بديمقراطية تتأسس على المساواة الكاملة ،
والحرية التامة ، والايمان بالمشاركة العامة .
فالوطنية
تشترط :
1- لا امتيازات خاصة
لجماعة قومية على أخرى ، ولا للغة على أخرى ، ولا لدين على آخر ، ولا لمذهب أو
طائفة على أخرى ، في كل مكان وكل بقعة ومنطقة داخل الوطن .
2- حق الشعوب في تقرير
مصيرها ، لحد الانفصال ، في ظروف التعسف الاقطاعي والاضطهاد الديني والاستغلال والنهب
الرأسمالي الامبريالي . مع أن وجود الدولة الكبيرة تأريخياً هو مرحلة متقدمة وخطوة
كبيرة وهائلة نحو الأمام على مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتنمية
البشرية . إن هذا الموضوع يأخذنا إلى
موضوع آخر يرتبط معه بوشيجة اساسية ، ألا وهو موضوع الفيدرالية ، ومنه يستدعي الأمر
موقفاً علمياً من الفيدرالية . فالفيدرالية تعتبر متقدمة في الواقع الحياتي وفي
المفهوم السياسي حين تكون الأمم مشتتة ومتفرقة حيث يجري لم شملها وتوحيدها في كيان
واحد . والفيدرالية ذاتها تشكل تهديداً لتقدم المجتمع وتعيق التطور الاجتماعي
والاقتصادي والسياسي حين تتأسس على تجزئة بلد ما أوكيان موحد . وهذا الموقف من الفيدرالية
، لا ينفي وجود استقلال ذاتي محلي ، أوحكم ذاتي للمناطق ذات الآوضاع
المعيشية والاقتصادية والحياة الثقافية الخاصة.
3- منع سن أي قانون يؤدي
إلى تغليب قوم على قوم ، أو ديانة على أخرى ، أو طائفة على أخرى ، أو سن قانون
يسمح بانتهاك المساواة بين الناس ، أو يسمح بانتهاك حقوق مجموعة بشرية ، أثنية كانت
( قومية ) أم دينية . ومنه فأن تشويه أي دستور يأتي من افتراض أن البلد له ديانة
محددة أو يمثل قومية ما .
والوطنية لأنها أيضاً تأتي من فكرة
الاستقلالية والمساواة في المكانة ، فهي تتضمن حقوق الناس على :
1- المستوى المدني ؛ حيث
تفترض وجود مساواة تامة بين المواطنين أمام القانون .
2- والمستوى السياسي ؛ حيث تضمن حق التصويت في
الانتخابات وحق التفكير والتعبير عن الرأي ، والتجمع بحرية ودونما قيود . وتوفير
فرص مراقبة المواطنين على أداء الحكومة . وضمان حق التنظيم السياسي والنقابي .
3- والمستوى الاجتماعي ،
حيث يتطلب توفير الخدمات وحماية الأفراد معيشياً ، توفير سبل العيش وضمان فرص
العمل للجميع ، وتحقيق الضمان الغذائي ، والتعليمي ، والصحي ، بشكل يحقق العدالة
الاجتماعية .
4- والمستوى الحقوقي والقانوني ، حيث يتطلب تحقيق
الأمن والاستقرار للجميع ، وحماية الناس من الاضطرابات السياسية والكوارث ،
وتوفير شروط السيادة الوطنية على المستوى الأقليمي والدولي ، بما يضمن حقوق
الناس في الأرض والاقامة والحركة والانتقال داخل الوطن بحرية .
إن الوطنية
بهذا المعنى توضح قوة الارتباط بين الحرية والمساواة .. حرية التفكير والتعبير
والتصرف للجميع، إذ بدون الحرية لايمكن الحديث عن وطنية . فإن ضمان الحريات
والمساواة والعدالة هي الطريقة الوحيدة لتحقيق الوطنية على الأسس الصحيحة .
إن الداعين
إلى مساواة تامة بين القوميات والطوائف والمذاهب هم وحدهم السائرون نحو تحقيق
ديمقراطية وطنية حقيقية تخلو من أي تعصب . هم وحدهم السائرون نحو بناء وطن قوي
يتمتع بالصحة ، دونما أمراض، قادر على مجابهة الصعاب وتحقيق الكرامة لأبناءه .
ولا يُقصَد
من الوطنية هذه اهتمام الفرد بشؤونه الشخصية الخاصة بالاستناد إلى نمط الحريات
المتاحة لكل فرد ، وانما تعني ؛ أن على الفرد الاهتمام بشؤون الدولة ونظام الحكم
والسياسة ، وتحقيق رقابة حقيقية للشعب - ليست صورية - على أداء الحكومة ،
ومراقبة اصدار القوانين ورعايتها ومتابعة تطبيقها.
التعصب والوطنية :
التعصب ؛ هو
الآفة التي تلتهم كل ما هو انساني في حياة الجماعة ، لأنه يقوم على إلغاء المعنى
الانساني من الحياة حينما يشتغل في الحيز الضيق من الوعي القائم على مصادرة
الآخر ، وكراهيته ، ورفضه ، ومعاداته لمجرد هو آخر مختلف . ومن هنا تأتي مخاطر
التعصب ، حيث تنبني على هذه المنهجية مبادئ الفساد . فقبول الشخص المماثل
المنتمي لقوميتي او ديني أو طائفتي ومذهبي ، يمنعني من رؤية مفاسده أو قبولها
بذريعة ما .
إنه لمن
المفروغ منه أن أيّ تعصبٍ يسبب اشد الفساد في المجتمع ويلحق افدح الضرر بالحريات
، إن الحرية والصلاح الاجتماعي يقفان بالضد تماماً من التعصب . ولقد شهد تاريخ
العالم الكثير من الحروب الداخلية (الحروب الأهلية وتعريض السلم المدني - الأهلي
للخطر ) والتي قامت جميعها بسبب التعصب
القومي أو الديني . ومنه يجب أن لايتحول حب الوطن إلى كراهية للآخر .
واذا كان
لابد من التصدي للتعصب ، فأنه يجب في البداية رفض مفهوم المواطن القومي النقي ،
والمتدين والمذهبي المنحاز ، لأن هذا المفهوم يعزز التعصب ، وأيضاً لابد من الاستماع
لما يقوله الآخرون المختلفون وادراك حضورهم الانساني . فلو فرضنا أن بلداً حكم
فيه الحاكمون وفقاً لنقاوة العرق القومي ووفقاً لمذهب ديني ما (كما حصل في
المانيا النازية) فأن الدولة ستفرض برامجها بالقوة على الآخرين ، وتحت حراب
بنادقها القومية أو الدينية ، وتتشكل برلماناتها من ابناء قوميتها النقية .. الخ
، ومنه فأن سيادة التعسف والظلم الاجتماعي والسياسي سيكون من مسلّمات قيام هكذا
دولة . كذللك فيما يتعلق بالتعصب الديني . ولنا أن نتوقع أشد انواع الظلم
والتعسف ضد الآخر من هكذا دولة . إن تاريخ العالم يزخر بمثل هذا النوع من
الحكومات والسياسات المعادية للحياة والانسان .
كذلك لابد
من الاعتراف والآقرار أن مبدأ الطائفة والدين والقوميات أمرٌ واقعي تأريخياً ،
لكن المرفوض من القومية والطائفة والتدين هو منهج التعصب . ومن المسلمات هو أن
رفض الظلم والتعسف واجب الديمقراطيين الحقيقيين . فالوطني بما أنه ديمقراطي (وهو
الذي لن تتحقق وطنيته من دون الديمقراطية ودفاعه عنها بصلابة ووعي ) عليه أن
يقبل أيضاً كل ماهو تقدمي وانساني في الحركات القومية والوطنية لما لها من بُعد
تاريخي وحقوقي ، ولكن من دون أن يتحول هذا القبول إلى تمجيد لأي قوم وتفضيلهم
على آخرين . عليه أن يكون مع ابناء الشعب بدون استثناءً ضد الاضطهاد القومي
والطائفي ، لآنه بهذا فقط يسود الشعب كل الشعب ، والذي به وحده تُبنى وتنمو
الديمقراطية ، على أن يرد هذا القبول أيضاً في اطاره التاريخي ( أي عندما تتعرض
قومية ما للظلم والاضطهاد والاستغلال) ، وعندما لاينتج هذا القبول مبادئ
شوفينية***.
فالتعصب القومي والطائفي نزعتان شوفينيتان
قادرتان على تعميم الكراهية ضد الآخرين ، ونشرها بين ابناء الشعب الواحد ،
واعتبارهم اعداء مفترضين . وليس هنالك صورة أسوأ في مجال الحكم والسلطة والسياسة
من نظام تقوم فيه الدولة بسلطاتها كلها على التقسيم القومي ( الأثني ) أوالطائفي
.
التحرر
الوطني :
كان العالم
وما يزال ينقسم إلى جبهتين : أقلية قابضة بيدها على رأس المال المالي تستثمر باقي
سكان الكرة الأرضية ، وقسم ثان هي الشعوب التي تتعرض للاستغلال وهي شعوب مضطهدة
في الغالب ، وهؤلاء يشكلون اغلبية سكان الأرض .
ولقد ارتبطت
القضية الوطنية في القرن االعشرين بحركات التحرر من الاستعمار ، التحرر من
العدوان الامبريالي للرأسمالية العالمية . فقد ارتبط التحرر
الوطني بقضية المستعمرات . واثناء العهد الاستعماري الذي امتد طويلاً ، في بلدان
كثيرة ، كان التحرر الداخلي مسموحاً به بحدود ، ( أي أن ينال الشعب المستعمَر
بعضاً من الحريات ولكن في اطار قوانين المستعمِرين وتحت هيمنتهم وسلطتهم ، وبالابقاء
على الاستعمار وقبوله ومحاولة تجميل وجهه البشع .) وبقي هذا النوع من الاستقلال
في حدود الاستقلال الذاتي الثقافي فقط ، بينما ينكرون على البلد الخاضع حقوقه
السياسية وتُمنع سلطته على ثرواته ، حيث يقوم المستعمِرون بنهب الثروات وفرض
التعسف والقمع والموت على المحتجين والمعترضين على النهب الاستعماري دونما رحمة
، فارضين سياسة الالحاق قسراً .
ومع ذلك
لايمكن اعتبار أي بلدٍ بلداً حراً وهو يقمع ويضطهد ويستعمر شعباً آخر أو يشن
عليه الحرب تحت أية ذريعة . ( كما هي سياسة الحرب الاستباقية التي
تنتهجها امريكا ضد شعوب العالم قاطبة ، وخارج مظلة القوانين الدولية ، بذريعة
ضمان الأمن القومي الأمريكي .)
إبان القرن
المنصرم كانت حركات التحرر الوطني قد وضعت في اولوياتها ، وفي منهجها التحرري
احترام الشعوب قاطبة ، ولابد لحركات التحرر والحروب التحررية ايضاً من أن تعمل
لضمان احترام المجتمع الدولي والمحلي لها ولنشاطها التحرري قبل كل شيء ، لأن
الرغبة في التحرر تعني في أول ما تعنيه العمل من أجل السلام ، وهي المنهجية التي
تقوم عليها حركات التحرر اثناء قيامها بنشاطات التحرر والاستقلال ، مع أن السلام
قد لايأتي إلاّ بامتشاق السلاح ، وهو آخر الحلول .
ومنه فأن حركة
التحرر الوطني معنية بتحرير البلاد من الهيمنة الاقتصادية والهيمنة السياسية
والهيمنة العسكرية . ومعنية أيضاً بعدم ترك أي منبر يساعد على طرح عدالة القضية
الوطنية ، ويضعها في المحل الواضح لمناقشتها ، واطلاع العالم عليها ، وكسب
المناصرين لها . إن ايجاد المناصرين لقضية ما يضعها في صدارة الموضوعات اليومية
التي تستطيع أن تستقطب الراي العام العالمي ، وتوجد تضامن دولي لصالح مشروعها
التحرري ، وتؤسس لموقف دولي عادل يشارك في صنع الاستقلال أو قد يقرب ويصنع أملاً
في نيل الاستقلال وتوفير الحريات .
إن نشاطات
التحرر الوطني بهذا المعنى تبرز للعيان مستويين من التوجهات ، اتجاه يؤكد
الانعتاق السياسي والاستقلال الوطني والسيادة الوطنية ويصر عليها ، والثاني يعمل
على التقارب العادل والانساني بين الأمم وفق مبدأ التفاهم والمساواة بين الأمم ،
واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها .
لقد كانت
الهيمنة الاقتصادية دائماً من أخطر اشكال الهيمنة ، لما للاقتصاد من أهمية في ثروة
البلاد وفي حياة الناس من بطالة وانخفاض المستوى المعيشي والغلاء .. الخ . كما
أن قوى الهيمنة الدولية تقوم بحروبها وفقاً لمتطلبات المصلحة الاقتصادية الخاصة
بها . فأن المتحكم في العمليات الاقتصادية في مجتمع ما هو من يقرر بالنتيجة كيف تتجه الأمور ولصالح من .
ولأن دول الهيمنة والاستعمار والأمبريالية تسعى لتحقيق مصالحها ، فهي تقوم
بالضرورة بما يضمن هيمنة قرارها السياسي ، واعاقة القرار السياسي الوطني للبلد ،
ومن هذا تأتي أهمية الوجود العسكري لدول الهيمنة في البلدان التي يجري استعمارها
أو احتلالها . وحالما يجد المستعمرون أن مصالحهم الاقتصادية قد استتب أمرها
واستقرت لصالحهم ، فأنهم يرون أنه لم يعد من الضروري بقاء قواتهم العسكرية
بمصاريفها الهائلة في هذا البلد . خصوصاً بعد أن يجدوا البدائل من السياسيين المحليين
لحفظ المصالح الاقتصادية للمستعمر أو المحتل.
وربما وجدت
حركات التحرر في خروج القوات العسكرية لدول الاحتلال والهيمنة الاستعمارية ،
بوابة لنيل الاستقلال والسيادة الوطنية على الأرض والثروة . ولكن كل ذلك يتطلب
برنامجاً وطنياً حقيقياً يقوم على مفهوم ( الوطنية ) التي تتحقق بالحريات العامة
والمساواة فقط .
الهوامش:
* الفرق بين الشعب
والأمة : يبقى الشعب عبارة عن جماعة اجتماعية يتمتعون بممارسة بعض الحقوق
السياسية ، بينما الأمة تتضمن فكرة اجتماع هذا الشعب في كيان سياسي ، أي في دولة
، حينما تتجه رغبة الناس بكل حرية للعيش معاً في شكل سياسي محدد ، أي في دولة .
** المواطنية
: الصفة التي كانت تطلقها قوانين الحاكمين واصحاب السلطة في عصور سالفة على
السكان ، حيث تبقى الحريات مقيدة ولاتشمل جميع السكان ، والتي تصف انتماء الناس
للارض وتحدد واجباتهم في الغالب وتلزمهم بالواجبات هذه ، أو تصادر انتمائهم هذا
متى شاءت، مع اعطاء بعض الفرص المحددة للمشاركة في الحياة السياسية التي تُمنح عادة
وفقاً لتقسيمات السكان الذين يصنفون قياساً إلى حجم مكليتهم للأرض والعبيد أو
الفلاحين الأقنان في مناطق مختلفة من العالم القديم . والمواطنية هي غير الوطنية
، لكن مبادئ الوطنية نشأت من تطور المواطنية عبر التاريخ ومن خلال توسيع الحريات
.
*** الشوفينية : هي التعصب القومي الأعمى وكره الشعوب
الأخرى واحتقارها .
**** الامبريالية : هي الدرجة العليا من مراحل التطور
الراسمالي ( عندما يتحكم الرأسمال المالي بالعمليات الاقتصادية كلها ) ، حينها
تتحول الدولة الراسمالية إلى دولة عدوانية تقوم بغزو الشعوب والسيطرة عليها
والغاء قرارها وخياراتها الوطنية ونهب ثرواتها واعتبارها سوقاً لبضائعها ، وفرصة
جديدة لتوسيع نهبها بجعل البلد المحتل ارضاً لاستثمارات رؤوس اموالها . أي تتحول
إلى قوة استعمارية .
المصادر :
1- المنجد في اللغة
والاعلام
2- لسان العرب
3- موجز تاريخ المواطنية –
ديريك هيتر
4- ملاحظات انتقادية حول
المسألة الوطنية – لينين
5- حق الشعوب ( الأمم )
في تقرير مصيرها - =
6- القضية الوطنية - ستالين
7- الذات عينها كآخر – بول ريكور
8- بعد ماركس – يورغن
هابرماس
9- مابعد الدولة – الأمة
عند يورغن هابرماس- عبدالعزيز ركح
10-
مواقع مختلفة على الانترنيت .
علي عباس
خفيف ....... العراق
|
الثقافي ثقافي : صحيفة اسبوعية تعني بالشؤون الثقافية .. تصدر من على صفحات المنتدى الثقافي ثقافي . تصدر اسبوعيا صباح كل يوم سبت _ صحيفة الثقافي ثقافي لاتتحمل أية مسؤولية عن المواد المنشورة , ويتحمل الكتاب كامل المسؤولية عن كتاباتهم التي تخالف القوانين أو تنتهك حقوق الملكية أو حقوق الآخرين أو أي طرف آخر . .راسلونا :alaahamied1@hotmail.com __ اتصلوا بنا :0045.91454973 الجمعة والأحد... عطلتنا ..______ كوبناهاكن العدد ( 24 )السنة الأولى / السبت 7 / 6 / 2014
المشاركات الشائعة
-
قصيدة أيهاب ومعلم الحساب حيدر الفتلاوي العراق معلم الحساب .. أشار في أصبعه وقال : أيهاب عد لنا للعشره فقام من مكانه ...
-
لميس ملحم شاعرة من سوريا لميس ملحم تكتب قصائدها بشكل لحظوي وهي صاحبة امكانية جميلة في الكتابة وادارة القصيدة فنيا نعرض بعض ق...
-
نار مقدسية أمل حسن ... فلسطين ــــــــــــــــــــــــ لك الصخرة تغني ...
-
وسام : سالار معروف ... العراق .......... عانَقَتني بدموعٍ لَم أراها قَبلَما بقَ...
-
خِيْانــــــــــــــــــــــــ ــــــــــةٌ حسن هادي الشمري العراق السَـــيْفُ ... أَصْدَقُ أنْباءً مِنَ الكُتبِ * ...
-
حدث ذلك بعد الموت بسنوات !!!!! سعدي عباس العبد ... العراق ** في نهار ما , من ...
-
( إمارة لصوصستان الإسلامية ) يحي السماوي العراق ________ بعد أن أكمل الخليفة توقيع البريد اليومي المتعلق بأحوال رعيته في...
-
الشاعرة والقاصة العراقية وفاء عبد الرزاق تفوز بجائزة ( أكيودي ) رواية ( حاموت) للش...
الجمعة، 11 أبريل 2014
في القضية الوطنية علي عباس خفيف ... العراق .............
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق