المشاركات الشائعة

الأربعاء، 23 أبريل 2014

لو أني مثلكِ دمشق ! حنان يوسف علي .... سوريا ..........















لو أني مثلكِ دمشق !
حنان يوسف علي .... سوريا


عنبيٌّ لونها السماء ، و الحرب تتأبط ذراعي ، تحرق كُمّ السترة الجوخيّة ، أراها تكشط جلود القادمين و الغادين . تصمت الأرصفة حولنا أَخرسَها و إيانا الصريرُ القريب . أخطو ببطء  كمن آخا بينهما ، المسافة أطلتُ ثوبها عساه الزمن يزيد مداه.  هل حقاً لا أريدها الدربُ أن تنتهي ؟ الموصومة بالدمع لحظاتها  ؟ تصدح بأذني موسيقا الغائب ، ياه ! يرحل  من نحبُّ هذه الأيام  ، وعن أنفسنا نحن الغرباء . الازدحام خانق ، يسرعُ الجميع نحو الحافلات القادمات ، لا مكان ، يتعلقون ببعضهم خارج الأبواب ، ترى مالذي ينتظر هؤلاء الناس ليتراكضوا نحو الأماكن مسرعين ؟ أماكن حديثة الذكريات ، أو عديمتها ! أماكن بالكاد تتعرف على من بقي من مهجَّريها !
الصنوبر في دار الأيتام جانب الطريق يعرفني ، يطلقُ الورق ، يعقدُ شَعر العابرين بأكوازه، و يبذرُ العبق عميقاً في الجدائل . طفلٌ عاتبٌ في الشرفة يطلّ  ، حافيا لما زرته آخر مرة  ، أنا من أخلفتُ وعدي بجزمة العيد . لوّحتُ بيتمِ البلاد له ، بأحلام أطفال ينتظرون أهاليَ لا يعودون ، بقصائدَ وطنٍ منسية ، بألوان الأمل ، بأجراسه الخجلى ، بورديّ أغلفةٍ غافية الهدايا . لمَ يخذل الآباء أبنائهم و يمضون باكراً ، تسائلتُ ! هل على رواد الحياة أن يكونوا مخذولين ، أن يشربوا الانتظار اليائس و تستوطن أحلامهم العتمة ، أن يتذوقوا القهر ، ليدركوا حلاوة الفرح ؟ 
 من الطريقين ، الرصيفَ اليساري أختار . السياراتُ قادمة صوبي ببطء ، لا تطفئ أبواقُ الضجيج توقدَ الذكريات . ضبابُ الواجهات المتحركة  يخفي تقاسيم الوجوه و غبرة همومها . " لا تسرْ عكس التيار ! و لو كان النهر أضاع طريقه نحو بحره ؟ و ضفتيه لا يرسو حولهما الحور و الصفصاف ! و لو كان مجراه رمالاً تبتلعه قطرة قطرة !  معاكسة اتجاه السيارات أعبر ، أتلمس توازن خطوتي و أمان المسير . في جيوبي أخفي يديّ،  باردةٌ شتاءات الحرب ، متجمدةٌ حتى السطوع شمسها . و مشتعلةٌ حتى الإحتراق أفكاري .
يا دمشق ! لو أني مثلك يطوقني قاسيون ، لم أكن لأرتاب من أسودَ الدخان في أطراف الحارة البعيدة ، فأستعيد برعبٍ ذاكرةَ الاتجاهات ، كنت أدركتُ أن غيمة ملطخة بالرصاص  تعبر الأمكنة ، و تسحلُ ذكراها تحاول الهروب . لم أكن لأرتبك لمّا تغدق ظلمتها صخرةٌ  داكنة جلستْ جانبي و أخفت في عفن سترتها الشمس ، لم تكن يدها الضخمة لتلصقني بشباك الحافلة و كتابي و موسيقاي . و لم أكن الغريبة أنا في طريق لا تودي إلى حينا ، أن أنزل في أقرب محطة ، لأمشي ساعات أتحسس الدرب بما بقي فيه من زيزفون ، و أتمعن في الخطوة و لا أراها ، و أتلمس وجنتي الغارقة بملحها و لا أجدها .
 لو أني مثلك دمشقُ يرافقني وجه الياسمين ، لما كانت لتوقفني حواجز الطرقات ، و تبحث في ملفاتها عن هويتي و لا تعرفني. لم أكن لأخشاه الغريبَ العابرَ في الزحمة ، و أرقبُ بقلقٍ جعبة كبيرة يحمل . لم أكن لأفقد صوتي و هو يسألني عن عنوانٍ قريب . لم أكن لأتعثر بجليد المسافة و حجارةِ البيوتِ المنهارة ، لم أكن لأمرّ بأطفال يتحدون الخوف بكراتِهم ، و لا أخلع عكازي الخشبي  ، و أركض بطفولةٍ معهم .



حنان يوسف علي  .... أديبة من سوريا

 
______________________________









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق